تموز: خطوط الدم وحدود المواجهة

"هذه أوجاع ولادة الشرق الأوسط الجديد"، كان هذا رد كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية، على سؤال حول عذاب الشعب اللبناني، وبخاصة الأطفال، نتيجة العدوان الصهيوني، خلال مؤتمرها الصحافي في بيروت في تموز 2006. إنَّ منطق السيدة رايس وجوابها ليسا بحاجة إلى كثير من الشرح لتبيان مضمونهما الإجرامي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لن ننسى أيضاً مئات الآلاف من المواطنين الذين نزلوا إلى الشوارع، وفي الوقت نفسه، في بيروت كما في باقي العواصم العربية، وكذلك في باريس ولندن ومدريد وكراكاس وفي العديد من العواصم والمدن العالمية، رافضين ومنددين بالعدوان الصهيوني المدعوم والمُشجّع من السياسة الأميركية؛ هذه السياسة التي جعلت وتجعل من كل أعمالها الوحشية والإجرامية، كما لو أنها أعمال شرعية وصحيحة، خصوصاً عندما تضعها تحت شعار "الديمقراطية وحقوق الإنسان".

ثلاث عشرة سنة مرت على ذلك التصريح، بما يحمله من طابع عدائي، لتلك الوزيرة، التي هرعت، على وجه السرعة، إلى بيروت لقطف الثمن السياسي لذلك العدوان، وللأسف بتواطؤ عربي وآخر بعضه محلي؛ فهو إذاً، برأيها، مخاض تلك الولادة، التي بدأت تباشير حملها مع احتلال أفغانستان ومن ثم العراق، لتلد بالعدوان على لبنان، وتكمل إلى سوريا وصولاً إلى خط النهاية والذي هو حتماً، سيكون فلسطين، لأن هناك مربط الفرس. هي أيام قليلة كانت متوقعة لانتهاء تلك "الموقعة"، أيام كان ينتظرها محور العدوان، المتّكئ على حالة انهزام عربية مزمنة وتخاذل حدّ التآمر وبداية استهداف محلّي لخيار المقاومة ربطاً بما يُحضّر للمنطقة، لكي يرى معتقلات غوانتنامو تفتح أبوابها لقادة المقاومة وداعميها.
لكن الواقع لم يكن كذلك؛ هي "لا" مدوية قالها الشعب اللبناني بمقاومته، كما قالتها الشعوب الحرة عندما نزلت إلى الشوارع تحيي صمود الشعب اللبناني ورجال المقاومة راذلةً العدوان وداعميه. هي لا مدوية قالتها تلك السيدة، وهي تقف على أنقاض منزلها المدمّر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وقد تجاوزت الثمانين من العمر، وأمام كاميرات العالم كله، لتقول "فدا المقاومة ورجال المقاومة"، وقالتها أيضاً تلك القوافل من الشهداء، التي تتالت وهي تسقط كالأشجار وقوفاً، كي لا تعطي للعدو الإسرائيلي حتى نظرة خوفٍ أو وجلٍ منه ومن غطرسته وعدوانه. هي تلك المعركة الحقيقية، والتي سقط على أعتابها ذلك المشروع "المسخ"، الذي جاء به اليمين الأميركي الفاشي، ليقسّم المنطقة ويُعيد تركيبها وفق مصالح الكيان الصهيوني، ذلك الموقع المتقدم للإمبريالية الغربية في منطقتنا.
هي معركة مفتوحة، لمّا تنتهِ بعد؛ فُتحت كي تتجاوز حدّ البلدان والكيانات لتصل إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق حسبة جديدة. حسبة ستتقاطع فيها المصالح على حساب القضايا والدول والشعوب، وسيُعاد معها رسم خرائط الحدود بخطوط الدم والنفط والمذاهب والكيانات، وسيُعاد معها نبش أحقاد الظلام والجاهلية والبسوس وسقيفة بني ساعدة... وغيرها من تاريخ غاص في الدم حتى الركب... هي معركة، عُدّتها وعديدها متوافران، ومفجّرها موجود، هو ذلك اليانكي، الجشع والعنصري والتافه. هي معركة واضحة المعالم والأهداف والقوى، وفي المقابل واضحة الحدود والمقاربات. واليوم، وعلى بعد مساحة من الزمن والأيام عن موقعة تموز تلك، تغيّرت الأحوال وتبدّلت، وأصبحت المجاهرة بالتواطؤ وإشهاره أمراً بديهيّاً، وها هي بعض العواصم العربية تفتح أبوابها للتطبيع، غير آبهة بالدم العربي المهرق على قارعة المشاريع الغربية في المنطقة. وها هي، مجدّداً، أنظمة التطبيع الملحقة بسيدها الأميركي تضخّ أموال شعوبها في صناديق تآمره، لتعود قتلاً وتدميراً وتقسيماً لدول المنطقة وشعوبها.
ونحن على مسافة من الزمن من تلك الموقعة، فإننا نرى "أجر" انتصارها يبدّده في لبنان نظام سياسي اعتاد الوصايات والتبعية. لقد جعل من مواجهة ذلك العدو القاتل، مادة للبزار السياسي؛ يذرف الدموع على الضحايا، وعينه على حفنة من دولارات كي ينفقها في مشاريعه وفساده، وعينه الأخرى تتآمر على من يواجه العدو، فيتّهمه بالعمالة أو التهور أو المغامرة، يقف منتظراً فوق رأس التلة ينتظر نتائج المعركة كي يأخذ جانب المنتصر، وليعلن انحيازه وولاءه له، وليعمل في خدمته. وهذا سلوك، للأسف، متأصّل في نمط السياسة المعمول بها منذ مئات السنين وحتى يومنا هذا. هذه الازدواجية القاتلة امتهنها أرباب ذلك النظام السياسي الحاكم والمتحكم؛ لقد أجهضوا الانتصارات على الاحتلال من خلال وضعها في ميزان حساباتهم الطائفية والمذهبية، فكان الاستهداف والتصويب على تلك الخاصرة الرخوة، فيُقتَل الأساس، والذي هو قرار المواجهة بالسلاح مع العدو الإسرائيلي، ويعيش منطق المسايرة والاستجابة لمقولة أّنّ قوة لبنان في "نأيه بنفسه عن الصراع". هما مساران سارا متوازيين، وهما بالمناسبة لا يلتقيان، بحكم الواقع ومنطق العلوم والرياضيات، وإن التقيا فستكون الغلبة، ويا للأسف، لمنطق المسايرة على حساب المواجهة.
واليوم، فها هي فلسطين تُوضع على خارطة طريق التصفية والإلغاء؛ صفقة بدأ مشوارها مع حرب تموز والعدوان المتواصل والمتتالي على غزة، والحصار والانقسام والتطبيع وافتراق الرؤى، بين سلطة لا تحكم ومقاومة عينها على السلطة، هي معادلة مآلها، بكل تأكيد، الفشل؛ السلطة إن وجدت فيجب أن تكون في خدمة خيار المواجهة لا عليه. وها هي سوريا توضع على حافة التقسيم، والعمل جارٍ على إخراجها من معادلة المنطقة، وبالتحديد من دائرة المواجهة مع العدو الصهيوني؛ وما قرار الاعتراف بسيادة الاحتلال على الجولان المحتل، من قبل الإدارة الأميركية الحالية، إلّا الدليل الساطع على مشروعها المتجدّد في المنطقة، مع ما تشهده من حروب وتوترات. والعراق، بدوره، نراه مكبّلاً بقيود الفدرلة غير المعلنة، لكن واقع الأمر قد رسم حدود الطوائف والمذاهب والعرقيات بالجغرافيا وبخطوط الدم. وها هي مصر تسبح خارج دورها التاريخي كقاطرة لعمل عربي مشترك، لتلعب أدواراً ثانوية في حدود المطلوب منها. وبقية من دول عربية أرهقتها أنظمتها، فجاع شعبها وتعب فانكفأت إلى داخلها.
أمّا لبنان، فإن ما جرى فيه مؤخراً من فلتان أمني، ومن توترات في العديد من المناطق اللبنانية المختلفة، والمترافق مع خطابات سياسية ومناخات أعادت الأذهان إلى مراحل الاقتتال الأهلي، يتحمل مسؤوليته أصحاب نظام المحاصّة المذهبية والفساد السياسي، والمراهنون على استخدامه لتنفيذ مشاريعهم المشتبه فيها، ولو كان الثمن تفجير الوضع الأمني، ومن بوابة الكانتونات والفدراليات المذهبية... فهؤلاء ليس لديهم ما يقدّمونه للّبنانيين سوى إنتاج هذا النوع من السلوك السياسي وتسويقه، تحت غطاء من السلوكيات المكرّرة كمثل تحقيق "التوازنات" أو حماية "الديمقراطية التوافقية"، والتي لا تعكس في حقيقتها إلّا مراهناتٍ ضمنية ومعلنة على استبدال هيمنة طائفية بأخرى أو إلغاءً وتهميشاً لهذا أو ذاك من السياسيين.وعليه، فإننا لا نرى تعويضاً عن هذه الخسائر التي لا نهاية لها، إلّا بقيام شعبنا بكسر تلك الحلقة من أساسها، أي ضرب البنية السياسية والاقتصادية للنظام المعمول فيه اليوم؛ هو مسار يبدأ بوأد هذا النظام ومزارعه وسلوكه، والذي دأب أمراؤه على سفك دماء اللبنانيين جيلاً بعد جيل، وأفقروا الشعب وهجّروه إلى بقاع الأرض قاطبة، وأيضاً بإعادة صوغ مفهوم الاقتصاد الوطني بطريقة أكثر انحيازاً لفقراء الوطن.
ونحن نعيش أيام تموز، الواقع بين أيار وأيلول، لا يسعنا إلّا أن نؤكد بأن ذلك القرار الواعي الذي اتخذه شعبنا وقواه الحية في المواجهة، لم يكن ردة فعل على فعل "وعد بلفور المشؤوم" أو على سلوك الاحتلال وإجرامه، بقدر ما كان خياراً ثابتاً بمشروعية سياسية ترفض الاحتلال وترفض الظلم والاستبداد والتبعية. هو قرار واعٍ ومسؤول، إذ لم يتردّد عساف الصباغ ورفاقه بتنفيذه من دون تعقيدات أو حسابات، ولم يتردّد شعبنا الفلسطيني، الواقع بين مطرقة الاحتلال وسندان الأنظمة العربية، من الانتفاض وحمل السلاح والقتال في سبيل تنفيذه، والذي بدأ منذ ما يقارب القرن من الزمن ولمّا ينتهِ بعد.
هو خيار أُسس عليه مسارُ حركةٍ وطنيةٍ عربيةٍ واسعة، كانت قضية فلسطين بوصلتها، واليوم، وعلى تلك المسافة الفاصلة بين الزمنين، فإننا نجد أنه لا بدّ من تجديد تلك المسألة والتي أصبحت أمراً مطلوباً؛ فالعدوان الأميركي متواصلٌ بعدوانيته التي تشمل كل منطقتنا العربية والشرق أوسطية، تقتل وتدمّر وتحرق، وعقوباته الاقتصادية تمتدّ من إيران إلى سوريا ولبنان لتصل إلى كوبا وفنزويلا؛ نمط من العدوان الشامل الواجب كسره ومقاومته وبكل الوسائل المتاحة، والاحتلال الصهيوني قائمٌ ويمارس العربدة في كل الاتجاهات، والرجعيات العربية تجاهر بأدوارها من دون خجل... فالتقسيم هو المشروع، والمستهدف منه شعوبنا العربية، فلماذا لا تكون المواجهة واحدة؟!!
القضية إذاً واضحة كما الحافز، كما الإرادة؛ ألم يحن بعد أوان الفعل والقول؟ فطريق المواجهة هي طريق فلسطين، ألم يأتِ الوقت للقول إنّ رفع الظلم لن يكون إلّا بطرد المحتل من حيث أتى؟ فإذا حان الوقت فلماذا ننتظر؟ هي قضية واحدة ومقاومات متعدّدة، لا بأس، فلنتوحّد حول تلك القضية أقلّه، حول خيار لا يمنع التنسيق والتعاون؛ فإذا كانت النيّات صادقة، فالعدو هو واحد ومشترك أيضاً.
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 361
`


حسن خليل