نُسجّي قطرات الماء من رواية على وقع الرحيل

وقد مضتِ السنونُ كلمحِ البصر، إلّا قليل أعوام، نتذكّرُ فيها كيف تكاونت إنسانيتنا، وظلّلت وجودَنا؟ نستشّف المقبلَ بمشاعر مهيبةٍ حميمة، والدّنيا تترقرق بانسيابٍ إلى قرارة نفوسنا، بغبطةٍ تبعث على الطمأنينة. أحاسيسُ رائعةٌ تخالجنا، تتملّانا ملاءات الحياة بأبهى صور، نعدو في أرجائها، في أحيائها نصغي لعزفٍ أثيريّ النغم، يمتزج بالأنفاس، بالقلب والروح؛ فلا يسترعي انتباهنا ألمٌ ما، نقوم من كلّ مكانٍ بضحكاتٍ تسبقنا إلى مُحيّانا، كما لو امتلكنا تجارب الأوّلّين واللّاحقين، تجاذبنا المعاني الإنسانية، تحرّك جوارحَنا وعقولنا، تحملنا على التمسّك برحلة كلِّ يوم.

لا أجهلُ، كيف استمسكتْ ذاكرتي الغضّةُ "الطفوليةُ" بعُرى الحكايات والمطارح والمشاهد، أهزجُ بصداها الموصولِ بذاتي المولعةِ بالنوادر والقصص والطرائف، أنقلها إلى مكانها على الصفحات؛ فلا يُطفئُ لها نورٌ ونار. كنّا نتسابقُ والأقدار دون أن ندري. أقدارٌ تمتحن صبرَنا وسعينا، وقد أضحت ملاعبُنا سوحَ وغىً، تضفي علينا مسحةً من الغموض والحزن، وعند العتبات أكفٌّ مُترَبة، ترفع الحطام وما تبقّى من أنفاسٍ متواشجةٍ وعناق.

والأيامُ تعاقبٌ، في تالده... وأنّى مضينا تنمو بذورُ تلك الأيام بوارف المحبة، وهي سُبلُ الضوءِ والخلاص، سُلَّمُ النفوسِ بإنسانيةٍ نستقيمُ فيها تعالياً عن الشرور والأهواء، عن الأحقاد بما يماثلُ يُشابهُ الحبَّ والطهرَ بأكوان ذواتنا، بأحاسيسَ موشّاةٍ بتلامحِ الفرحِ والتوجّد. وهي في هوى أفئدتنا كلّما اشتدّت قتامةُ الدّنيا بالغياب، تملأ كؤوسنا بقطوف السهر، والعيون تترسّلُ، بالرضى، والمشاعر الطليّة تتلامسُ بفيوضاتٍ شهيةٍ، تُسلسُ لها أغوارَ الحكايات، والنزوات العارضة تنتظم لذات الحبكة والألق، لأطفال دواخلنا المشدودين في الأشكال اللّانهائية، وقد تواثبنا من ملاعبنا وحقولنا، من أزاهيرنا وقناديلها، من طيورنا وغيماتنا، وقد تضوعنا شذى الدّنيا، نسابقها إلينا... فلا تخلو الصورُ منّا، ولا المسافات، والصخب في سكون أعماقنا، نُفسّر روحَ الحياةِ بالحبِّ والجمال، وفي الروح أشكالُنا، ألواننا؛ فما نكادُ نتوالى عن دنيانا، حتى ننفجرَ مُتصلّي الوشائج والخواطر، كما لو ناقةّ ذلول، ترفعنا مترعي الملامح الضاحكةِ الفاغمةِ بتياهِ الألوان... كيف نتلامسها بأطراف النشوة، بأفكارٍ لا تستكين، لا ندعُ للنهار أن يتصرّمَ وفينا مشاعرُ نحيلةٌ باردة، لا نشقى، نعرف كيف نغسلهُ بخصبِ المشاعر النبيلة، بذيّاكِ الدفءِ القمريّ.

***
مطارحنا، هَهنا ينشقُّ لها الضحى بقلوبٍ مُعفّرةٍ بشعلةٍ تتراقص، تتذاوبُ أمام الأبواب وعند العتبات، ترفع عن الأسرّةِ نوماً معرورق الألفاظ، والأرواح تُعِرْ أعماقها لرغباتٍ جامحةٍ ومتقلّبة، لانفلات الحواس.
كيف في الدّنيا الزحام؟
كيف نحمل الخيطان وكرات الضوء والسُبْلَ لشتيت الأحلام؟
كيف نضعُ في القلب أعشاشَ الكلمات والأحاسيس حتى تفرخَ وتطير؟
حتى تستبّدَ بنا الظلالُ بارتعاش الأوراق، بتواكب أشرعة الصباح، بأستار الأماسي وأسرجة الطوايا... تلك النوايا حاملة البشائر.

 

***
إذا غابَ نهارٌ، صحونا على نهارٍ آخر، وعاد للشّوارع لغوُها، للأزاهير تفتح أفوافَها لنحلات العسل، للعيون والينابيع، والأمنيات تمتلئ بالنّور... كيف تنادي علينا،
نذهب، نذلّلُ الألمَ بخربشاتٍ تبعث على البهجة والحبور، نرمّمُ الجدرانَ وجذوع الأشجار بحروف أسماء الحبّ والعشق.

نذهب إلى تلك المواعيد بلا عنايةٍ لدقّات القلب، والخطى تزداد لها وتيرةُ أنفاسِنا؛ فإذا جٌنّ الليل أضاءتِ القبلُ، وغلبَ علينا نعاسٌ لا نومَ فيه، وأنسانا الولَهُ الدّنيا وأغنانا، فلا ننسى هوانا بأصغر طرفةٍ ولحظة، بأرقّ قبلةٍ ودمعة، وأنتِ في قلبي، أقدّمُ لكِ قلبي على طبقٍ من الهوى، على أنّني في حرمةِ قلبكِ أتعبّد، وقلبي قربان العشق، آهٍ قلبي الذبيح كيف في قلبكِ يتجدّد...!!؟

***

لكَم جنّت أحاجي وذكريات، أذهب وقلبي معاً، وأكاد أخفيه، وتلك الصغيرة، صلتي بالحياة، حيث تبسط ذراعيها لحبيبٍ ضلّ عن قلبه بإرادة الحرب والرحيل والخراب.
وأنا في تجاذب الأفكار، في خضم المشاعر، في المدى الآخر ولا يأسَ مع الحياة، أترقّى بذاتي إلى الحدِّ الأقصى، أُحيلُ عتمةَ النهارِ على حالها، فتتفجّر مكنونات النفس، وحين تذوي الذكريات، أقيمها؛ فإنّ خيراً مقبلاً يتراءى في ذاتي، وإنّ نوراً ينبثق بجموع هذا الفؤاد، يتنزّلُ عليَّ في شَؤوبٍ من السلام والرحمة.
حين تعشى المشاعرَ لذاذاتُ الشّوقِ بقلقها وألقها، تصيخ كأنّما لأصواتٍ، لحركاتٍ، لملامحَ لا تفارق انتباهةً لي والتفاتة، أترسّلُ سحابةً منسيّةً في تلك الظلّةِ هناك، تسحبني إليها من طلوع غزالةِ الصُبحِ حتى بوحٍ معتّقِ الرعشات... عشبُها الحاني على حيدِ الإبحار، يردّدُ همسَ دمي الناصل حتى آخر شعاعٍ كان لي ابداً.
كان الولدُ هناك، يشلحُ أضوءاً خافتةً على عذار الرقود، حيث تنأى المسافات إلى مستقرٍّ لها في الظلام، حيث أقبض على خطواتٍ تتفالتُ من صمتها، كنتُ خبّأنها كي تبدو الحياة كيف تحملني إليها خطاي؟ ويكون الانتظار على مهمهِ إقبالٍ وقلق من سفر النوم. من أسمى وأبهى دعاءٍ تُرتِّلُ روحي آيَ آلفجرِ وتصلّي، وقد غمرتني وضمّتني روحها، ولكم تمنيت قيامتي بين يديها، في حضنها، على صدرها، لا تُفطَمُ حواسّي عن دعاءٍ ورجاء.

قلبي المسدّد، المشدود، المُمَسّدُ بعاطفةِ بجنانِ بنورٍ ونارِ الحبّ، يدفع العواصفََ إلى عرائها وراءَ المرآة. لا تخدعُني، أرى قلبي في مرآتي، وهي صبح وجهي، طيبُ مسائي، تنتظرني من الفجر إلى الغروب، تلملمُ أحلامَ نومي، تسري بملامحي توقِظُني، تسبقني ضاحكةّ لملاقاتي، تعانقني بشمسها ونجومها، فيها يتناهى، يتماهى نبضُ قلبي، فيها كلُّ ليلةٍ أُودِعُ نظراتي، سلامي وابتساماتي، مشاعرَ وصفاءَ أحبائي. مرآة الوجود وقد تجلّت بزهرتي، واستقبلت أناقتي، خوفي وقلقي برحابةِ نورٍ وسرور، وقد حفظتْ وجهي وابتسامتي، قلّدتني تأمّلاتي، وأنا المسافر منذ ما لا أدري، تهصر، تصهرُ رؤايَ، الأزمانَ والدّهور، وحيث تكون حبيبتي يذوب قلبي، نبدو هنا معاً... نطوي المرايا بفيوضات العشق، يترقّى لامتناهيا من كلِّ عينٍ "طفلٍ"... هنا تفيض العيون على الحياة، نتقمّصُ الرؤى في مهدها البكر، نلعب والدّنيا... نحن أطفالها في الأساطير في الوجود، حيث تهيم الكائنات، والشّفق ينهل من دمنا والشغف... يؤاخي بين الغرباء، أولئك المؤتلفة أرواحهم؛ فأنسى روحي تمكث هناك، آنسُ روحي المعقودة بأواصر العشق، وليس من معارج مؤصدة. تقول، متى ألقاها... متى أحملُ إليكِ قلبي؟ أعرفها تلك المرايا، تلك الدّروبَ الموشّاة الحنين.