17 تشرين حلم مستمر..

 

سنة على حراك الناس وانتفاضتهم، مرت بأيامها الطوال دونما أن يتحقق حلم واحد من الأحلام الوردية التي راودت شعبها. في لحظة انهيار منظومة الفساد وتعرّيها منذ ثلاثمئة وخمسة وستين يومًا، ملأ الشباب والشيب الشوارع، قدموا من كل الحارات، وتكاملوا في مشهدٍ واحدٍ أعلنوا فيه موت صيغة لم تقدم لهم سوى الفقر والهوان والفساد في جميع أدران الدولة... نعم إدارات دولتنا ومؤسساتها، أعجز من أن يصحّ فيها غير مصطلح "أدران" باستثناء قلة قليلة ممن لا يزالون يعملون بصفة فردية، وبوحي من ضمائرهم الحيّة.


كبُر الحلم واتّسع مع كل طلعة شمس... أتذكرون ذلك القادم من الليلكي رفقة ولديه وزوجته، بعد معركةٍ ليليةٍ مع كل أنواع العسكر- ففي لبناننا، والحمد لله، أجهزة كثيرة، ولكل طائفة وزعيم جهازه- وحين سُئل أجاب: لن نترك الساحات، علينا ألا نستسلم، فهلمّوا من بيوتكم وافترشوا الأماكن، وأعيدوا لملمة صفوفكم، وسنستكمل مشوار التغيير معًا. ثم كرّت سبحة القادمين، وتكاثر الحالمون في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وباشر الناس، أطفالاً ونساءً ورجالاً، حملة تنظيف الشوارع، وبلسمة جراحها التي تعرّضت لها قبل ليلة صاخبةٍ من الكرّ والفرّ.
واظب المنتفضون على وسم الساحات بوجوههم، فعيونهم وقّادةً، تحلم بوطنٍ غير الذي خبروه على مدى ثلاثين عامًا، بل غير الذي ولدوا وولدت أمهاتهم فيه منذ مئة عام بالتمام والكمال.
قالوها على جميع الشاشات، صاحبات الأجندات منها أو الصادقات، إننا نريد وطنًا حرًا ديمقراطيًا لأبنائنا وأبنائهم، فحلمنا، وإن بدا أنه يخبو، لا ننفكّ نراه في عيون شبابنا الواعدين. كلما أكد المنتفضون هذه اللازمات، اهتزت رموش الملتصقين بكراسيهم، وخفقت قلوبهم خوفًا من سقوطهم المحتمل.
اشتدّ النزال، تقاسم المتسلّطون الأدوار والمهمات، ولملموا صفوفهم، وهم في الحقيقة أقوياء، فمنهم من ناور واندسّ، أو أرسل مندسّيه بين الناس في الشارع، واشتغل على مصادرة أحلامهم، وتبنيها، فصاروا، بإمكاناتهم الكبيرة، يستهلكون الوقت ويعتلون منابرهم المزيفة، ويتحدثون بلغة الخبث والمكر، ينطقون باسمنا زورًا، إلى ان حوّلونا، مع الوقت، الى مهمّشين في الساحات؛ فإعلام المندسّين يجافينا، ويبحث عن مناصريه ومن يشبهونه، خلف كلّ واحدٍ منّا، ويستفتيه! ولكنّنا استمررنا، وواظبنا على الحضور الى الساحات، حتى وسم بعضها بأشكالنا، وأصواتنا، وحناجرنا، وشعاراتنا التي بقيت هي هي، ضدّ دولة الفساد، تلك الناهبة خيرات الشعب والمغتربين، ومدّخراتهم، تلك القاتلة أحلام الشباب. ومنهم من جنّد اعلامه وناسه ضدّنا مباشرةً، فكال إلينا التهم، وما أكثرها! بوق هنا ينفخ بفم التخوين: أنتم عملاء السفارات، وها هي خيمكم تشي بكم، وسندويشات اللبنة والبطاطا تعريّكم. وبوق هناك ينفخ بفم التآمر: أجنداتكم مشبوهة، تريد ان تسقط لبنان ومؤسّساته... أبواق "حدّث ولا حرج"
هم لم يعدموا فرصةً، إلّا ونكّلوا بنا، محاولين قتل حلمنا الذي رسمناه طريقًا إلى الدولة المدنية، والذي يحلم به أبناؤهم أيضًا، وهم يراقبون مخاض ولادة لبنان فينا، ولكن أين هم من شعب يمضغ البؤس صباح مساء خبزًا يوميًّا؟ وهم من قيل فيهم "قلوبهم معنا، وسيوفهم علينا"
اليوم، بعد سنة كاملةٍ على النزال، يتّضح كم أنّ النظام السياسي في بلدنا فاسد! وكم هو مقتدر وقادر! تأتي الذكرى السنوية الأولى فنحييها مناسبة لم ترق الى مستوى أكبر، في حين أنّ النظام يتجدّد برموزه وفاسديه، وهم منقادون الى مقصلة التفاوض التي لطالما كانت مرفوضة ومستبعَدةً. مقصلة تسبّبت بها منظومة الحكم التي لم تقبل بالتنازل لشعبها قيد أنملة، ولكنّها تتنازل اليوم للأميركي والفرنسي وغيرهما، فقط لتحافظ على أموالها المنهوبة، فتسدد ديونها من ثروة كانت ستؤول يومًا إلى وطن يحلم أن يعيش فيه أبناؤه في كرامة وهناء وسلام، بدل أن يستعطفوا أصحاب النفوذ، لينالوا موعدًا يتسمّرون فيه على أبواب السفارات يستعطون تأشيرة هجرة، وليتها تتحقّق...!