أيغضبهم محو "إسرائيل" من "لاروس".. ولا يغضبهم محو المعرفة والحرية والكرامة من لبنـان؟ *


عددٌ من الصحف، وعددٌ من الأقلام، في لبنان، يضجُّ ضجيجاً متواصلاً، منذ نحو أسبوعيْن، في غضبٍ ثائرٍ هائجٍ مُزبِد، لمجرد أنّ رقابةَ المطبوعات في وزارةِ الأنباء والإرشاد "مسحتْ" خريطةَ "إسرائيل" أو اسمها من القاموس الفرنسي "لاروس"!..


والغاضبون هؤلاء قد أَلبسوا القضيةَ لباساً نسجوه ـ فيما زعموا ـ عن حرصهم على "حرية المعرفة" في لبنان.. فهم قد غضبوا غضبتَهم تلك، إذن، لأنّ مراقبةَ "لاروس" ومحوَ "إسرائيل" من إحدى صفحاته، كانت ـ في دعواهُم ـ نوعاً من الرقابة على "المعرفة" في لبنان!..
فهل هم يغضبون، حقاً، من الرقابة على المعرفة في لبنان؟..
نحبُّ أن نصدِّقَ ذلك، ونحبُّ أن نتجاهلَ السؤالَ الذي يُلحُّ على كثيرٍ من الأذهان في لبنان.. السؤال الذي يقول:
ـ تُرى، أكان يغضبُ هؤلاء كلَّ هذا الغضب، ويضجّون كلَّ هذا الضجيج، لو أنّ "الرقابةَ على المعرفة" هذه المرة نالتْ كتاباً غيرَ "لاروس"، أو نالتْ "معرفةً " غيرَ هذه " المعرفةِ " التي جاءتْ في "لاروس"؟ ...
قلت: نُحبُّ أن نتجاهلَ هذا السؤالَ الآن، لأننا نًحبُّ أن نُصدِّقَ دعوى الغاضبين بأنهم غضِبوا لأمرٍ واحد، هو مجرّد "الرقابة على المعرفة " في لبنان ...
فإذا صدّقنا الدعوى هكذا، صحَّ لنا أن نسألَ الذين هاج بهم الغضب حتى أثاروا هذه الضجةَ العريضة:
أهذه أولُّ رقابةٍ على المعرفةِ في لبنان تبلغُ أسماعَكم أيها الأخوان؟ .. أما بلغتْ أسماعَكم وأذهانَكم، قبل هذه المدة وبعدها، أعمالٌ وتصرفاتٌ من رقابةِ المطبوعات في وزارةِ الأنباء والإرشاد، ومِن أجهزةٍ أخرى، كجهازِ الأمن العام مثلاً، قد صادرت المعرفة، وصادرت حريةَ الفكرِ والرأيِ والقراءة، وصادرت حريةَ الإنسان في كرامته من حيثُ هو مواطنٌ لبناني، ومن حيثُ هو إنسان؟..
عجباً أيها الأخوان! ..
أتراكم تحصرون حرمةَ المعرفة، وقداسةَ الحرية، وكرامةَ الإنسان، في أمرِ كتابٍ واحد اسمُه "لاروس" أو ما هو مِن قبيلهِ في المصدر، وفي أمرِ معرفةٍ واحدة، وحريةٍ واحدة، وكرامةٍ واحدة، تتّصلُ بهذا النوعِ من "المعرفة "، أو هذا النوعِ من "الحرية" أو هذا النوعِ من كرامةِ الإنسانِ القارئ في لبنان؟..
كم مرة أُصلِتَ سيفُ الرقابةِ، أو المنع، أو التمزيق، أو المصادرة من الأسواقِ ومن البيوتِ مع انتهاكِ حرماتِ الفكرِ والناسِ والمساكن ـ كم مرة أُصلِتَ هذا السيف، اعتباطاً، على العديدِ من الكتبِ والصحفِ العلميةِ والأدبيةِ والفكريةِ والفنية في حين أنّ معظمَ هذه الكتب والصحف يجيءُ إلى لبنان من بلدانَ صديقةٍ للبنان، ويحملُ إلى الفكرِ اللبناني صنوفاً من العلمِ والمعرفة والخبرة والتجارب الحضاريةِ التي يزعمُ الزاعمون أنّ لبنان يشرعُ أبوابَه لاستقبالها من أيِّ مكانٍ جاءت، ويفتحُ آفاقَه جميعاً للاستفادةِ منها أو الاطّلاعِ عليها ـ بالأقل ـ ليأخذَ منها ما يصلحُ له وينبُذَ ما لا يُصلح؟ ..
كم مجزرةٍ للكتبِ والفكرِ حدثت في لبنان، وكان سيفُ رقابةِ المطبوعات، أو سيفُ جهازِ الأمن العام، هو الذي يوقعُ المجزرة، أو المجازرَ العديدة.. وكان الضحايا الحقيقية لهذه المجازر: الفكرُ اللبناني، والإشعاعُ اللبناني، وحريةُ المعرفةِ في لبنان، وكرامةُ الإنسان في لبنان؟..
ولكن، كم مرةٍ غضبَ لهذا كلِّه، أو لشيءٍ من هذا كلِّه، أولئكم الذين هاج غضبُهم وهزَّ أعصابَهم، هذه المرَة، محوَ خريطةِ "إسرائيل" أو اسمها من إحدى صفحاتِ "لاروس"؟ ..
ومِن عجَب أنه، حتى حين كان غبارُ الغضبِ والضجيجِ من أجلِ "لاروس" يملأُ خياشمَ قرّاءِ بعض الصحفِ وبعض الأقلام، كان رجال الأمن العام في لبنان يُغيرون على المنازلِ في محلّةِ الطريق الجديدة من العاصمةِ اللبنانية، مدينةِ النور، فيعتقلون شباناً لبنانيين متعلّمين من مستقرِّ حُرُماتِهم المنزلية، ويعتقلون كتبَ المعرفةِ والثقافاتِ الإنسانيةِ الحضاريةِ من مكتباتهم، ثم يقذفون بالإنسان وحريته وكرامته وبكتبِ المعرفةِ وحُرُماتها إلى دهاليزِ الامتهانِ والاحتقار، من غيرِ مسوِّغٍ قانونيّ، ومن غيرِ استنادٍ إلى حق، ومن غيرِ اعتبارٍ لأعرافِ القضاءِ اللبناني ..
من عجب أنّ هذا قد حدث، فعلاً، حين كان غبارُ الغضبِ والضجيجِ من أجلِ "لاروس" يثورُ في جوِّ العاصمةِ اللبنانية، دون أن يُثيرَ عصَباً واحداً من أعصابِ الغاضبينَ الضّاجينَ الهائجينَ من أجلِ ما سمَّوْه "رقابة على المعرفة " في "لاروس"!..
أريدُ أن أسألَ، أخيراً، أولئك الحريصينَ على حريةِ المعرفةِ في لبنان، الغاضبين "لرقابةِ المعرفةِ " في لبنان:
ـ أيُّ الأمريْن أجدرُ بحرصكم وبغضبكم أيها الأخوان: محوُ "إسرائيل" من بعض الصفحات في "لاروس".. أم تلك الأعمال والتصرفات الاعتباطية من لدن جهاز الأمن العام التي تحاولُ محوَ المعرفةِ والحريةِ وكرامةَ الإنسان من لبنان؟..
لعلكم تُجيبون سرّاً أو علانية:
ـ تلك قضيةٌ أخرى.. تلك قضيةٌ تتّصلُ بالشيوعيين، وبالمعرفةِ "الشيوعية"! ...
إذا كان هذا جوابكم، كان لنا أن نسألكم ثانية:
ـ أولاً، هل علمتم أنّ مجازرَ الكتبِ والمعرفةِ والحريةِ الفكرية والإنسانية التي تحدثُ في لبنان دائماً، وفي هذه الأيامِ بنوعٍ خاص، لم تكن قط وليستْ هي اليوم منحصرةً في "الشيوعيين"، ولا في المعرفةِ "الشيوعية"؟..
ـ وثانياً، من هم الشيوعيون اللبنانيون، وما هي المعرفة "الشيوعية"؟..
هل الشيوعيون اللبنانيون سوى فريقٌ من الوطنيين الذين وقفوا حياتَهم وجهدَهم ومعارفَهم وأقلامَهم للدفاع عن استقلال لبنان وكيانِه وحرياتِه وثقافتِه ومطامحِ شعبه الوطنية والديمقراطية والتقدمية.. وهل مَن يتحدّى هذا القول منكراً على الشيوعيين اللبنانيين هذا الواقع الذي يشهدُ له تاريخٌ كفاحي يرجع إلى أكثرَ من ثلاثين عاماً.. فكيف لا تكونُ قضيةُ الحرية والكرامة الإنسانية في لبنان، إذن، قضيةَ الشيوعيين اللبنانيين، لأنها قضيةُ كلِّ الوطنيين اللبنانيين، ولأنها قضيةُ الوطنِ اللبناني المستقل الحريص على استقلاله الذي قوامُه الحرية والديمقراطية ..
ثم، هل ما تسمّونها المعرفة "الشيوعية" سوى قطاعٌ كبيرٌ عريضٌ خصيب من قطاعاتِ المعرفةِ الإنسانية في عصرنا؟.. بل هل هي سوى القطاعُ العلمي والحضاري الذي يؤدّي في عصرنا دورَ الفاعلِ المحرِّكِ لقوى التطوّر والتقدّم والتحرّر، والعاملُ الأكبر، أو الأوحد، في تقريبِ عصر السلام الثابت الدائم على الأرض؟..
فإذا أغلقتم آفاقَ لبنان، وآفاقَ الفكرِ اللبناني والمعرفةِ اللبنانية عن هذه المعرفة التي تسمّونها "الشيوعية" فقد أغلقتم لبنانَ كلَّه، إذن، عن حضارةِ العصر، وكانت دعوى الإشعاع والانفتاح في لبنان، مهزلةَ الدعاوى وأضحوكةَ الزمان ...
إذا كنتم صادقين في حرصِكم على حرية لبنان، وحرية المعرفة في لبنان، فاعرفوا، إذن، أنّ كلتا الحرّيتيْن اليوم في خطر غيرِ "خطر" محو "إسرائيل" من إحدى صفّحاتِ "لاروس"!..

* نُشرتْ هذه المقالة للشهيد المفكر حسين مروة في جريدة "النداء" بتاريخ 14 / 11 / 1962، العدد 1165