النساء في الانتفاضة: قمع وتحرش وإستخفاف


انهيار إقتصادي ممنهج، أنتج انتفاضة عمت شوارع لبنان. مظاهرات كان طابعها المتجلي عابراً للطوائف والانقسامات السياسية والمناطقية. وفي هذا الانغماس المتشعب في كافة أنحاء البلاد، خاضت فتيات المواجهة في ساحات الانتفاضة، لان الازمة تعنيهن وتمسهن، رغم بعض الخصوصية لمشاركة النساء في التحركات قي ظل نظرة اختزالية لدور النساء في العمل السياسي، الى جانب ما تعرضن له من اعتداءات وتحرش وضغوطات.


تسترسل ساندي شميط في حديث عن تجربتها خلال الانتفاضة. تعود بالذاكرة الى يوم الخميس في 17 تشرين الاول 2019. يومٌ بدأ كأي يومٍ آخر، جامعات وعمل وكلٌ منا منغمسٍ بشؤونه، الى حين دقت الساعة الحاسمة، وبدأ الناس ينهمرون نحو ساحة رياض الصلح متجهين للقصر الجمهوري، حاملين شعارات التغيير، وحفنة من الغضب تراهم يتوارثونها من جيل الى جيل. لم تكن ساندي على يقين في ذلك اليوم إلى أنها ستتواجد بين الحشود وصوتها يعلو الى حد الجشأ.
في تلك الليلة عادت الى منزلها الساعة الخامسة فجراً. استقبلها والدها بجملة "إرجعي محل ما كنت. راجعة الساعة خمسة عالبيت!".
وفعلاً عادت. تبديلٌ سريع لثيابٍ تشربت رائحة دواليب محترقة، وتجاهل والدٍ احترقت أعصابه. والى الساحة هلم.
عادت الى ما تسميه ساندي انتماءها، "أنتمي للشارع، أنتمي لأولئك الذين يشبهونني بمشاكلي وقلقي. كنت أعتقد أن مكان تواجد أمي وأبي هو بيتي، فتبين لي أن لي بيتاً آخر في الشارع بين المتظاهرين. اضطررت لمواجهة أهلي وأعرافهم وانتماءاتهم السياسية. وعندما عادت الجموع الى منازلها وفرغت الشوارع أصابني احباط، شعرت أنني فقدت مكان انتمائي".
أما فرح درويش، وهي عضو في النادي العلماني في الجامعة اللبنانية الدولية، فلم تتلقَ معارضة من أهلها حول مواكبتها الشارع، وإنما تعترف أنه كان هنالك بعض اللحظات التي شعرت فيها بمحاولات لسلب المواجهة منها من الجنس الآخر داخل ساحة المعركة.
سمعت فرح عبارات مثل "انتِ ارجعي لورا، رجعوا النسوان لورا"، وكأنما هي غير قادرة على حماية نفسها أو الوقوف بوجه القوى الامنية. شاهدت علامات تعجبٍ واستفهام من الذكور المحيطين بها عندما كانت تتحدث إلى عناصر الأمن أو تشتم تصرفاتهم، رغم أن جميع من كان متواجداً في الشارع كان يفعل الشيء نفسه. تتعجب فرح من ردات فعلهم. هم ينظرون إليها ولا يرون إنساناً قادراً أمامهم، لا يرون سوى فتاة، وكأن تلك التي ولدت فتاة أقل منهم بالفطرة، وتضيف "يحاولون الوقوف أمامي والدفاع عني، وهو أمرٌ أتفهمه. ولكني لا أطلبه ولا أريده".
ريم الخطيب، خريجة صحافة من الجامعة اللبنانية، تعتبر المظاهرات بشكلٍ عام، ومظاهرات 17 تشرين خصوصاً، ترجمة لأفكارها السياسية على أرض الواقع. ريم أيضاً سمعت كلاماً قاسياً وبشع حول نزولها الى الشارع، "حكي من أهلي، ورفقات أهلي، ورفقاتي عمواقع التواصل الاجتماعي" تقول ريم، "اعتبروا اننا نزلنا بهدف ممارسة الجنس أو نصاحب أو نحشش، أو نلقط عرسان." وتؤكد ريم أنه بغض النظر عن هذه الأقوال، يحق للنساء ممارسة كل ما ورد أعلاه، وإنما استخدامه في سياق الحديث عن المظاهرات هو محاولة لتشويه عملنا السياسي كنساء وانخراطنا بالمواجهة، وكأننا غير مدركات لخطورة الوضع وأهميته، ولا يهمنا مصير البلد، وشغلنا الشاغل "يتطلعوا فينا الشباب".
وتضيف ريم " طبعاً هي الاتهامات غير الاعتراف بأننا نزلنا نتظاهر، ولكن بفعل تظاهرنا منصير "عاهرات" "فاجرات". هون ما في تشويه لسبب نزلتنا، معترفين انو نازلين كرمال نطالب ونغيّر ولكن معتبرين النساء بموقع التغيير هنّي فاجرات".
ريم تتفهم أولئك الذين يحاولون حمايتها عند اشتداد العنف، ولكن في حالة واحدة وهي ابتعاد رفيقها الذي يحاول حمايتها من الخطر معها. أما أولئك الذين يبعدونك الى الوراء من باب أنك أنثى، بحاجة للانقاذ، غير قادرة على النجاة بنفسك، ولأنهم الأولى باحتلال ساحات الصراع، فأولئك شهامتهم غير مرغوبة. فنحن اعتدنا منذ ولدنا أن نكون مسؤولية أحدٍ ما، "لازم حدا ينتبهلنا يمسكلنا ايدنا ويمشينا، يحمينا، يوجهنا شو الصح وشو الغلط. وهي ياها الابوية بعمقها يعني انه يكونوا الذكور (خيك، بيك، رفيقك، إبنك، إبن خالك، حتى شاب ما بتعرفيه) مسؤولين عنك وعن تصرفاتك وخياراتك".
تبلورت ظاهرة أثناء المظاهرات تتسم بدفع النساء الى الأمام لتشكيل جدار سلام بين المتظاهرين وقوى الأمن. وهو أمرٌ تعتبره ريم تافهاً، لأننا تماماً كرفاقنا الذكور لدينا مشكلة مع قوى الأمن وقد قاموا بضربنا تماماً كما فعلوا معهم. لذلك تعترض ريم على فكرة اعتبار النساء حمامات سلام مع سلطة لا تميز بين ذكرٍ وأنثى في عملها الاضطهادي.
بدورها عانت سابين سلامة من تخوف الأهل الدائم تجاه النزول المفرط للشارع، رغم أن مزاولتها لمهنة الصحافة يحتم عليها التواجد دائماً في أماكن الصراع. وكذلك سمعت عباراتٍ على نسق "مفكرة انت هلق حتخلصي الثورة؟" ، ولكن هذا الحديث لم يهبط عزيمتها، وإنما تأكد على حريتها بالتواجد حيثما تريد، مؤكدةً أن محاولات البعض بارجاعها للوراء كانت تقابل بالفشل، "كنا دائماً بالواجهة، وكنا نوجه المتظاهرين في بعض الأحيان، وقمنا بتكسير الجدران ورمي الحجارة. كان لدينا وجوداً قوياً. حتى عند نزول أزلام الأحزاب ومحاولاتهم لتهديدنا ومحاوطتنا".
تخبر سابين عن قصتها مع التحرش على جسر الرينغ، حيث كانت تقف هي ومجموعة من الشباب والفتيات، وقوى الأمن محيطين بهم من كل الجهات. اقترب رجلٌ منها ممسكاً بها من الوراء، فقامت بالابتعاد والوقوف بعيداً لربما لم يكن بقصده، الا أنه عاد ليمسك بها مرة ثانية، فأقبلت على تهديده والابتعاد عنه مرة أخرى. ألا أن تهديداتها باءت بالفشل، فما لبث أن مرت عشر دقائق، حتى عاد المتحرش ليعيد الكرة. فقامت سابين بالامساك به والانهيال عليه ضرباً، ومعها صديقتها بجوارها تساعدها. أما عناصر الجيش اكتفت بالوقوف وعدم التدخل.
في وصفها للصراع مع قوى الأمن في الشارع، تتحدث سابين عن إختلاف طريقة تعامل الضباط والعساكر مع المتظاهرين، حيث يتخلى العسكري عن العصا بعد مواجهة سيدة له بجملة "بدك تضربني فيها للعصا يا وطن؟" ولكن سابين تعتبر أن هذه الانتصارات الصغيرة لا تحتسب كونها تأتي من تمييز جندري، وتضيف "يحترمني حين أذكره بأخته أو بوالدته حصراً، وهذا يفرض على إناث الثورة المراهنة على حسن العلاقة بين العنصر ووالدته، عوضاً عن المنطق الأخلاقي. وعلى الذكور أن يبتعدوا. أن يواجهوا العنف بالعنف، أو يتذوقوا طعم الجزمة لحظة الهجوم".
شكلّت الإنتفاضة محطة مهمة في نضالنا اليومي ضد سلطة تقتلنا وتفقرنا يومياً، ولا تميز في ممارساتها بين الرجال والنساء، فيما تصرّ النساء على مزاولة نشاطهنّ السياسي، وحريتهن في التعبير والتواجد رغم عتابات الذين لا يزالون عالقين في دهرٍ ولى، فيما ممارساته وأفكاره لا تزال جاثمة على صدور النساء.