عرسال: آثار الحرب في ٣٠٠ كيلومتر مربع (1)

دفعت الحرب ملايين الرجال والنساء في سوريا إلى مغادرة حدود بلادهم، وليس فقط عبور البحار والقارات، بل بدؤوا أيضاً بالهجرة الجماعية إلى الدول المجاورة. ففي لبنان، تم توزيع ما يصل إلى مليون ونصف مليون لاجئ في جميع أنحاء مناطق البلد المختلفة التي يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة.

عرسال بلدة حدودية تقع في شمال شرق لبنان على بعد ١٢٣ كم من بيروت، وعلى بعد ١٢ كم فقط من الحدود السورية، وتغطي مساحتها ٣١٦ كيلومترٍ مربّع. وتتميز عرسال بمناظر التمركز السكاني الواسع على قبابها وأبراجها، فضلاً عن الأسطح البيضاء التي لا تحصى والتي تغطي ١٣٢ مخيّماً للاجئين في أراضٍ كانت في السابق زراعية أو شاغرة. ويشير عدد النازحين فيها إلى ١٢٠ ألفاً، أي ثلاثة أضعاف عدد سكانها الأصلي البالغ عددهم حوالي ٤0 ألف نسمة. ثم تمّ تغيير الديناميات الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة، لتزداد سوءاً أكثر من ذي قبل عندما استولت داعش على المدينة لعدة سنوات.
اليوم وبعد طرد داعش من عرسال، يغرق هذا المجتمع في سيناريو من الأرق يصاحبه في نفس الوقت إرادة كبيرة للعودة إلى الحالة الطبيعية في وقت تهدد فيه البطالة التعايش بين السكان السوريين واللبنانيين، ولا ننسى الخطر المتجسد في الألغام المضادة للأفراد التي تهدد العلاقة والتنمية. وهي حالة تعرقل سلطات عرسال وسكانها والنازحين الذين يثبتون من خلال مبادراتهم ورغبتهم في التفوق أن عرسال تتطلع إلى مستقبل مختلف.
في كل مرة يفتح عبد العزيز فليطي باب منزله، يبدو الأمر كما لو أنه فتح نافذة ضخمة يروي من خلالها وجهة نظره الاستثنائية. تمّ بناء منزل عبد على منطقة مرتفعة وصخرية تشبه جسراً طبيعيّاً ضخماً يحدّ الجزء الأكبر من الحياة المدنية التي تتكشف عند قدميه، من خلالها يمكنك التمتع برؤية شبكة الشوارع المتعرجة من عرسال وكأنك واقفٌ على شرفة.
وليست هي الكوفية الحمراء والبيضاء التي يضعها عبد على رأسه كل يوم قبل بدء يومه وليس منظره الحاد النظرات من فوق شاربيه ما يعطيانه ذلك الطابع المميز. عبد متزوج ولديه ستة أطفال. ويبلغ من العمر ٥٨ سنة. هو ذو صوت قوي وضخم، يخبرنا عبره بوضوح كيف أنشأ واهتمّ هو وأسرته لمدة ٣٥ عاماً ببستانين حوَيا أكثر من نصف ألف شجرة من أشجار التفاح والخوخ والكرز.
يتذكر عبد أنّه في عام ٢٠١٢، شهد اللبنانيون الـ٣٧٠٠٠ في عرسال تغييراً جذريّاً في حياتهم اليومية المتقلبة والمعقدة والتي عاشت إهمال من قبل مؤسسات وسط بيروت على صعيد الخدمات الصحية والكهرباء والمياه الصالحة للشرب. "وصل السوريون بشكلٍ جماعي، وبطريقة فوضوية استقروا في كل مكان، أولّاً في الخيم و بعض الشقق المستأجرة، وعندما بدأت الأموال بالنفاد وأقيمت مخيمات اللاجئين الأولى، اختاروا الانتقال إلى هناك"، يروي عبد.

على الرغم من الوضع المعقد الناجم عن هذا الوصول الهائل، رحّبت سلطات وشعب عرسال بالنازحين نظراً للتجارة والعلاقات الأسرية بين اللبنانيين والسوريين. ولكن هذه العلاقات الأسرية لم تستطع أن تحل مشاكل التعايش التي نشأت مع مرور الوقت والتي تفاقمت في ما بعد عندما دخل عرسال أكثر من ألف عضو من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وفتح الشام (المعروف من قبل بجبهة النصرة) صيف عام ٢٠١٤ في محاولة لتوسيع نطاق نفوذهم في المنطقة. أبقوا السكان في حالة ارتباك لمدة ثلاث سنوات أثناء إقامتهم في نفس المدينة وأثناء مطاردة أهلها من الجبال واحتلالهم لأراضٍ زراعية لآلاف المزارعين، كحال عبد، فلقد دمّروا محاصيله وفرضوا عليه دفع مبالغ من المال خلال الحرب.
وعلى الرغم من أن الجيش اللبناني ومقاتلي حزب الله، في منتصف عام 2017، نجحوا في طرد إرهابيي داعش الذين كانوا يتمتعون بسلطة كبيرة في المنطقة، إلّا أنّ عرسال لا تزال تعاني من عواقب هذا الاحتلال، إنْ كان من خلال السيطرة العسكرية المشددة الموجودة دخولاً وخروجاً أو من خلال وجود ألغام مضادة للأفراد تركها الإرهابيون في رحلتهم وباتت مسؤولة عن العديد من القتلى و تحويل حياة الناجين إلى محنة.
خلق الوجود الهائل للسوريين النازحين حالة من النفور في نفوس السكان المحليين الذين يلومونهم الآن على كل أمراضهم ومشاكلهم: البطالة، نقص فرص العمل وتدهور خدماتهم العامة التي هي بالأصل مشؤومة.
ولطالما كانت عرسال تاريخيّاً منخرطة بالزراعة، حيث خصّصت مئات الهكتارات بشكل أساسي لزراعة أشجار الفاكهة. لكن هناك مورداً طبيعيّاً آخر يزخر بالمنطقة وقد تم الاستفادة منه وهو الصخر المعروف باسم "الحجر العرسالي"، المستخرج من المحاجر الموجودة في محيط المدينة، معروف بمقوماته واستخدامه بشكل أساسي للبناء.
لا ينسى عبد يوم ٢ أغسطس ٢٠١٤، نهار سبت صيف حار وجاف، عندما دخل داعش المدينة عنفاً، واستولوا على المدينة في غضون ساعاتٍ قليلة. فأصبحت عرسال مخزناً للأسلحة خلال خمسة أيام، إلى أن تمكّنت السيارات المدرعة وقوات الجيش اللبناني من التخلص منهم باتجاه الجبال نحو تحقيق هدوء مؤقت...
في السنوات الثلاث التالية كانت حالة عرسال في حالة توتر دائم إثر خطف الشرطة والجنود، تبادل الأسرى والمواجهات بين الجيش وداعش. فكانت الاشتباكات تحصل في هذه البلدة المحصنة بين التلال المحيطة والتضاريس المرتفعة، والتي دخلت وغادرت عبرها مجموعات داعش بحريّة حتى جعلها الجيش تتراجع. وتابع هذا الأخير عملياته في المنطقة بحثاً عن المتسلّلين والمتعاطفين مع داعش من السكان داخل مخيمات اللاجئين.
وعندما نجح الجيش اللبناني ومقاتلي حزب الله في يوليو / تموز ٢٠١٧ في طرد إرهابيي داعش من المنطقة، كان هذا يعني بدء حياة جديدة بالنسبة للسكان. "عندما عدت إلى أرضي وجدت كل شيء جافّاً وميتاً، وكان لدي مولد كهربائي سرقه الإرهابيون... سيتطلب مني الأمر أكثر من ٢٠ عاماً حتى أسترجع أشجارها وثمارها مرة أخرى"، يقول عبد.
تأثر أكثر من أربعة آلاف مزارع نتيجة الاحتلال في عرسال. لا توجد أرقام تحدد الخسائر الاقتصادية تلك، لكن تقدر بمئات الآلاف من الدولارات. فمثلاً، حققت المحاصيل السنوية لعبد متوسط ٨٠٠٠ دولار أمريكي في السنة، فبذلك يكون قد خسر في سنوات الاحتلال الثلاث حوالي ٢٤٠٠٠ دولار أميركي من دخله. كما تضرر عدد مماثل من العمال وأصحاب العمل الذين يعملون بالمقالع. يقول عبد، وهو كان يعمل في مجال إستخراج الحجر العرسالي: "أحجارنا من أعلى مستويات الجودة ولهذا السبب أعتقد أن هناك أملاً في إعادة الحياة هذا القطاع. لا نزال في وضع ينعدم فيه الأمن، لكن عاجلاً أم آجلاً هذا الوضع سيتغير".
لا يشير عبد بكلامه إلى الوضع الأمني فقط من حيث السيطرة المحكمة التي يفرضها الجيش على المنطقة نظراً للشبهات التي تدل على وجود داعمين لداعش خفيين. والأخطر من ذلك، وجود الألغام القاتلة مضادة للأفراد في مناطق زراعية كبيرة ومناطق المحاجر، مما يجعلها غير قابلة للوصول وخطيرة. تشكل الألغام المضادة للأفراد مشكلة أساسية في لبنان. لقد انتشرت ملايين من هذه الأجهزة المتفجرة في معظم أنحاء لبنان نتيجة سنوات الحرب الأهلية الدامية والصراعات المسلحة الداخلية والخارجية المختلفة وكانت مسؤولة عن آلاف الضحايا. وقد سجلت الحكومة اللبنانية ٣،٧٤٧ من ضحايا الألغام وبقايا الحرب (٩٠٧ قتيلاً و ٢٨٤٠ جريحاً) بين عامي 1975 و 2016. بالإضافة إلى ذلك، صرّحت أن هناك أكثر من 20 كيلومتراً مربّعاً من الأراضي لا تزال ملوثة بهذه المتفجرات. مع العلم أن هذه الألغام موجودة على الخريطة أو على السجل.
في عرسال ومنطقة بعلبك، تُعرف الألغام المنتشرة هناك باسم "ألغام الميليشيات" التي تركها إرهابيو داعش خلال هروبهم من الأراضي والتي تؤثر مباشرة على سكان المنطقة ليس فقط على نطاق إنتاجيتهم، ولكن على حياتهم الخاصة أيضاً.
قابعة على سجادة حمراء تغطي كامل غرفة معيشتها في شقة منزلها، في الطابق الثاني من حي في وسط عرسال، تذكر فطوم محمود الحجيري أن أول سؤال خطر بذهنها فور استعادة وعيها كان عن مكان وجود زوجها. قبل استرجاع ذاكرتها ببضع دقائق، كانت فطوم في الشاحنة بجوار يوسف أحمد الحجيري، شريكها وأب أولادها الخمسة. كانت برفقة ابنتها الكبرى وثلاثة من أحفادها، في طريقهم إلى بستانهم في منطقة المجير، بالقرب من عرسال. قبل وقت قصير من وصوله إلى وجهته، طلب يوسف من العائلة النزول لالتقاط بعض الأدوات وإكمال ما تبقى من الطريق مشياً على الأقدام، ولكن فطوم لم تفعل ذلك. وبعد بضع دقائق، حلقت السيارة في الهواء نتيجة دوسها على لغم.
شهادة الناجين مؤلمة وحادة دائماً. قصة فظيعة لكن للأسف حقيقية. ففي يوم الأحد 27 أغسطس 2017، أخذت حياة فطوم منعطفاً نحو الأسوأ. "حب حياتها"، حسب توضيحاتها، مات بسبب انفجار لم ينبغِ أن يكون موجوداً بالقرب من حقول العائلة.
ألم الخسارة لم يكن الألم الوحيد الذي أصاب فطوم، فالآثار واضحة: وجهها مثقوب بالندبات التي تركتها شظايا المتفجرات، انخفاض في طاقة الحركة الطبيعية الخاصة بالمشي لديها كنتيجة لتلف شديد في عمودها الفقري، وبالإضافة إلى تراجع الرؤية والسمع لديها. لكن هناك آثاراً أخرى مخبأة، كمرض الاكتئاب والهستيرية الليلية التي أصابتها.
وكان كل المجهود الذي بذله خالد، الابن الأصغر لفطوم والمسؤول المادي عنها، من خلال عشرات المعاملات الورقية التي أنجزها للحصول على مساعدة حكومية، باء بالفشل لأنّ هذه المعاملات لم تلقَ مرادها أبداً. يقول خالد "لقد ملأت العديد من النماذج وقابلت مسؤولين، بما في ذلك العديد من العسكريين... حتى أنني أنفقت أكثر من خمسة ملايين ليرة لبنانية في هذه المعاملات ولم أحصل على أي مساعدة".
ويضيف خالد "كلّفت نفقات الطوارئ والعلاج في المستشفى أكثر من ٢١ مليون ليرة لبنانية، هذا من دون حساب تكاليف إعادة التأهيل والأدوية التي لا تزال فطوم بحاجة إليها، والتي يمكن أن تكلف ٥٠٠ دولار أمريكي شهريّاً". ومسؤولية خالد هذه تزيد صعوبة مع تفاقم مشكلة البطالة في لبنان، خاصة لدى الشباب، ونظراً للتأثر السلبي لسوق العمل في عرسال بوصول اللاجئين.
إن عملية التعافي لفطوم بطيئة ومعذبة، والسبب ليس فقط بسبب كونها عملية صعبة بالنسبة لناجية من الألغام، لكن أيضاً بسبب كونها هي وعائلتها من تحمل التكلفة الاقتصادية لعملية إعادة التأهيل هذه. مع العلم أنّ "الاستراتيجية الوطنية للعمل ضد الألغام في لبنان 2011-2020" تشير بالتحديد إلى أن "رعاية الطوارئ والمساعدة والعلاج الطبي يجب أن تكون مجانية لضحايا الألغام". وقد أكّد المتحدثون الرسميون باسم القوات المسلحة اللبنانية أنه "لن يتم حرمان أي ضحية ألغام في الأراضي اللبنانية، من المساعدة، بغض النظر عن حالتها، حيث يجب مراعاة العامل الإنساني في المقام الأول". لكن يبقى هذا التصريح "رسالة رسمية فقط" في حالة فطوم وغيرها.

 

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 364
`


غسان صليبا