البعد الفلسطيني والاقليمي لصفقة القرن

يبدو أنّ الإدارة الأميركية بقيادة ترامب، قد حسمت أمرها في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، بإعطاء الأولوية، لإجراء ترتيبات إقليمية أولاً، ومن ثمّ الانتقال إلى المسار الفلسطيني، استناداً إلى ما سعت إليه قبل الإعلان عن صفقة القرن، عبر إنجاز تسويات على المستوى الإقليمي تفضي إلى القيام بترتيبات اقتصادية على طريق دمج الكيان الصهيوني في المنطقة. ناهيك عن الزيارات المكّوكية لوفود صهيونية متعدّدة لدول الخليج بالسرِّ والعلن، وافتتاح ممثليات تجارية وقنصلية في عدد من دول الخليج، وتطبيع العلاقات وترسيمها بما يخدم المصالح الأميركية - الإسرائيلية في المنطقة عموماً، ابتداءً من الدول العربية ولا سيّما الخليجية وعلى رأسها السعودية. وهذا ما شكّل افتتاح المسار الاقتصادي الذي يمهّد الطريق للمسار السياسي، بدءاً بالورقة التي قدّمها كوشنير في مؤتمر الدوحة، تحت عنوان "من السلام إلى الإزدهار" وصولاً إلى إعلان ترامب منذ أسبوعين عن الشقّ السياسي لصفقة القرن.

المسار الاقتصادي لصفقة القرن

هي ليست المرّة الأولى، التي تطرح فيه الإدارة الأميركية المسار الاقتصادي لحلّ قضية الشرق الأوسط، وتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ويمكننا القول إنّ ذلك يعود إلى نهج اتّبعته في كلّ المفاوضات التي جرت بين الفلسطينيين والعدوّ الصهيوني، منذ مؤتمر مدريد عام 1991 والمسارات الأخرى، وذهبت إلى أبعد من ذلك، لتتعدّى الدول المحيطة بفلسطين إلى شمالي افريقيا، حيث تمّ التطرّق إلى قضايا تتعلّق بالبيئة والمياه (دور العدوّ الاسرائيلي في إثيوبيا وسدّ النهضة، والدور الذي لعبه العدوّ الصهيوني في جنوب السودان للاستثمار في النفط وسلخه عن الوطن الأم).

تحاول صفقة ترامب - نتنياهو، تقديم تسوية سياسية عبر إعطاء الاقتصاد الأولوية، ومنه للولوج في حلٍّ سياسي، بحيث يتمفصل العامل الاقتصادي في السياسي، في استهدافاته ليطال الإقليم بأسره. وأعلن كوشنير في الدوحة في ورقته المشؤومة "السلام من أجل الازدهار" السعي إلى تحقيق نموٍّ اقتصادي، في الدولة الفلسطينية بنسبة100% خلال 10 سنوات، وهذا صعب المنال بل مستحيلٌ على بنية اقتصادية ضعيفة ومشوّهة بفعل الاحتلال والهيمنة الاقتصادية للكيان الصهيوني، حيث سيتم إلحاق الاقتصاد الفلسطيني بالصهيوني، وتأبيد الاحتلال، عبر رشوة يراهنون أنها ستشتري صمت الشعب الفلسطيني المقاوم. أمّا ما طرحته ورقة كوشنير عن فرص عملٍ لأكثر من مليون فلسطيني، وعبر توظيف 3% في القطاع المنتج سواءً في الصناعة أو الزراعة، وتصدير الصادرات الفلسطينية بما نسبته 40% فهي محكومة بالفشل حيث يطبِقون على السلطة الفلسطينية المزعومة عبر طرق ومواصلات وجسور معلّقة ومقطّعة يتحكّم بها جيش الاحتلال، وغياب مطارات أو ميناء بحري، وما تسمح به قوات الاحتلال وانعدام وجود جيش لهذه الدولة الوليدة، وحتى الطريق البري بين غزة والضفة الافتراضي، فهو مرفوضٌ سلفاً من قِبل المسؤولين الصهاينة في دولة الاحتلال.

المسار السياسي للصفقة المشبوهة

لم تلحظ ورقة كوشنير، وتجاهلت تماماً مفهوم السيادة للدولة الفلسطينية الجديدة، والكيان الفلسطيني، استقلاليته، طبيعته، كيانه السياسي والسيادي، حيث من المفترض أن يقوم على بناء تحتي وقاعدة اقتصادية، وهذا ما أدركته دول وبنوك وشركات شاركت في مؤتمر المنامة ولذلك كانت مجرّد مستمعة، لخطاب تشويقي ، بياني خيالي وإنشائي لا يمت إلى الواقع بصلة. ولم تتحمّس للاستثمار في كيان جغرافي أشبه بجزرٍ صغيرة مقطّعة في ارخبيل غير واضح المعالم الجغرافية والحقوقية والقانونية والدولية، عبارة عن تكتلات بشرية تحت الاحتلال، ربما تنعم بالمأكل والمشرب والعمل إن توفّر، ولكن إلى حين.

وجُلَّ ما قدّمته ورقة كوشنيير ليس تطبيعاً بين كيانين، هما الفلسطيني والصهيوني وطبيعته، بل أفسحت هذه الورقة بالمجال للتطبيع وصولاً إلى إرساء علاقات رسمية بين الكيان الصهيوني وأنظمة عربية، انطلقت من مرحلة السرّ والتواصل الخجول إلى العلنية والإعلان الرسمي والمجاهرة. وصل الإسفاف بالبعض من أبواق الخليج، إلى القول "إنّ صفقة القرن هي مَكرُمة إسرائيلية، يجب على الفلسطينيين بالمقابل تقديم الشكر والامتنان لإسرائيل". وسارعت الدولة الصهيونية إلى ضمّ المستوطنات في غور الأردن وشاطئ البحر الميت الشمالي، كما قدّم لها ترامب الجولان والاعترف بكلّ المستوطنات التي أقامتها تحت غطاء اتفاق أوسلو.

لا تراهن الإدارة الأميركية بقيادة ترامب، على تقدّم العملية السياسية من خلال المفاوضات، بل تريد تثبيت الأمر والاعتراف الشرعي الدولي والعربي والفلسطيني تحديداً، من أنّ الحقائق والواقع الاستعماري والاستيطاني والتهويدي، والاحتلالي للأراضي الفلسطينية، هي مُسلّمات يفرضها الواقع الحالي أي باسم الواقعية السياسية والجيوسياسية المستجد، ولا يمكن العودة أو التنازل عنها، أيّ باختصار تطويع القرار العربي السياسي، استجابة لترتيبات إقليمية، وتلبية لاحتياجات السياسة الأميركية والصهيونية معاً، وإعطاء الأولوية لهذه الاحتياجات والسياسات. وبالتالي على الأنظمة العربية أن تدفع ثمن هذه الصفقة وتكاليفها وتدعمها بكلّ الوسائل من أجل بقائهم على العروش وفي السلطة، وترامب يذكّرهم دائماً بجملته الشهيرة "تريدون حمايتنا لكن، عليكم أن تدفعوا".

صفقة القرن اوهام واحلام وردية

رسمت صفقة القرن أحلاماً ورديّةً للشعب الفلسطيني، مع تجاهلٍ تام لوجود احتلالٍ لأرض فلسطين، وينطلق من فرضية أنّ الأمن والسلام والاستقرار مستتب، شريطة أن تبقى كذلك على مدى 10 سنوات، لا حروب، لا انتفاضات، ولا اضطرابات، ولم يأتِ على ذكر رفع الحصار عن غزة، أو أنّ الضفة تقع تحت الاحتلال. والتلويح بإغراء مالي، باستثمار حوالي 16 مليار دولار لبلوغ الإزدهار الاقتصادي الاجتماعي والثقافي، منها حوالي 9 مليار للفلسطينيين، والباقي لدول الجوار (مصر لبنان الاردن) لأغراض عدة. هكذا أسماها، يعني بذلك تصفية قضية اللاجئين، وإنهاء حقّ العودة وتكريس التوطين.
واللافت أنّ الدويلة الفاضلة لكوشنير لم يربط فيها بين الإزدهار الاقتصادي المرتقب حسب زعمه، وبين التخلُص من الإحتلال والحصار مثلاً، إنْ في الضفة أو للقطاع. كما لم يأتِ على ذكر الأرض، ولمن تعود الموارد الطبيعية، واستغلالها وحرية استخراجها وتسويقها، وهذه كلّها التي تؤمّن فعلاً لا قولاً، الرفاهية والمجتمع المزدهر وحيوية المجتمع، في حين تسويق لمقولة "إنّ تحقيق الازدهار والرخاء والرقي والبحبوحة لا يتعارض أبداً مع بقاء الإحتلال واستمراره"على حدّ زعمه.
إذن، الإحتلال بحسب صفقة القرن ليس عقبة تحول دون الإزدهار، ويريد الصهيوني كوشنير ورئيسه ترامب، إقناعنا وإقناع الشعب الفلسطيني ببقاء الإحتلال، لأنه يجلب الرفاهية والرقي والبحبوحة، والنِعم تدوم وتستمر تحت مظلة الإحتلال وحمايته.باختصار كوشنير يبيع الأوهام والأحلام الورديّة.

الأموال المقدّمة تزيد الدين العام

إنّ فرضية كوشنير في الورقة، والصفقة التي أعلن عنها، والمتعلّقة بفرص عمل فيها الكثير من التضليل والخداع كتاجر البندقية اليهودي في مسرحية شكسبير، ولم تسعفه تجربته ونجاحه في الربى والريع العقاري. توفير مليون فرصة عمل وهم، لأنّه يعني إعالة خمسة ملايين أسرة، في حين معدّل الأسرة الفلسطينية أكثر من ذلك بكثير. وكذلك الأموال الوهمية التي ذكرها عبارة عن قروض بفوائد ونسبتها 53% من المبلغ الإجمالي في حين أنّ 25% هي عبارة عن منح غير محدّد فيها حصة كلّ دولة. يعني صراحة كما جاء في كتاب ملفات فلسطينية "صفقة القرن في الميزان" أنّ فلسطين الموعودة ومصر والأردن ولبنان ستزداد مديونيتها للعالم الخارجي بنسبة القروض الممنوحة لها، وسيترتب عليها زيادة عبء خدمة الدين القائم أصلاً، وبالتالي المزيد من الإرهاق للموازنات العامة".

المكوّن الفلسطيني يبقى الأساس

مع صفقة القرن، دخلت معركة الشعب الفلسطيني اليوم، مرحلة لها قواعدها ومرتكزاتها وآلياتها الجديدة، والمكوّن الفلسطيني بيده الحسم والمواجهة. غياب المكوّن الفلسطيني وهو الأساس عن ورشة البحرين الاقتصادية، ورفض كلّ الأطراف الفلسطينية لصفقة العهر والتزوير التاريخي، صفقة تكريس الإحتلال، والسير في سياسة الاستيطان الاستعماري التهويدي، تتمة لمشروع الخدعة والنكبة المستدامة لاتفاق أوسلو، وتأبيد الكيان الصهيوني المصطنع. كلّ ذلك يؤسّس لمواجهة ومقاومة عنيفة، لإسقاط صفقة القرن، وهي ليست قدراً، شريطة أن تتوحّد الفصائل الفلسطينية حول مشروع موحّد واستراتيجية موحّدة لقيادة النضال الوطني التحرّري للشعب الفلسطيني، وإعادة هيكلة منظمة التحرير، وتثويرها، كي تعود إسماً على مُسمّى، أي للتحرير، ورافعة لحركة التحرّر الفلسطيني. وكذلك دعوة كلّ القوى الوطنية التقدمية واليسار العربية للاتفاق على رؤية واضحة، تبحث في كيفية إطلاق مقاومة عربية شاملة ضدّ المشروع الأميركي – الصهيوني الرجعي العربي.

إنّ استعادة دور وعمل المقاومة الوطنية الفلسطينية هو الردّ التاريخي في هذا الظرف الاستثنائي الذي تمرّ به الحالة الفلسطينية، وباتت أكثر من ضرورة. جبهة تعمل على المحاور التالية: تصعيد المقاومة الشعبية من الحجر إلى السلاح، والتحرّر من التزامات اتفاقية أوسلو وتداعياتها الكارثية على القضية الفلسطينية، والتخلص من الإملاءات والاتفاقات الجانبية السرية منها والعلنية، وتوقّف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والعدوّ، وعزل العدوّ الصهيوني في كلّ المحافل الدولية، ولا سيّما أنّ هناك أكثر من 128 دولة تعترف بدولة فلسطين، وهذه الدولة تحت الاحتلال.

كذلك صارت ملحّة مَهمة إنهاء الإنقسام والتشرذم، والإنطلاق في معركة تحرير الأرض، ودحر الإحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، على كامل التراب الفلسطيني، كما قال المناضل الثوري الراحل جورج حبش "ولو طال الكفاح والنضال لتحقيق ذلك أكثر من مئة عام ومن يشعر بالتعب فليتنحَّ".

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 372
`


خليل سليم