في طرح سؤال النظرية الثورية لانتفاضة 17 أكتوبر

غالباً ما نردّد خلف لينين، وبطريقة ببّغائية أحياناً، أنّ لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. ظنّاً مِنّا أنّنا نملك النظرية، بفهمنا لمَلَكَات المنظور المادي للتاريخ، أو باتّباعنا نماذج ثورية حاولت تطبيق شيء من الماركسية في تجاربها التاريخية، أو حتى بمعرفتنا للأزمات الدورية في بنية الاقتصاد الرأسمالي، وبِكشفنا - اقتصادياً- لِمفاصِل تلك الأزمات. إلّا أنّ كلّ تلك (المَعارِف) لا تقتضي لتكون نظرية ثورية، ولا حتى لتكون غطاءً فكريّاً واستراتيجيّاً لتحرّكات الشارع.

فالنظرية الثورية غير موجودة بعد. ولذلك ستبقى الانتفاضة في حلقة مفرغة من عدم الإنتاج الثوري التاريخي. فالانتفاضة في ثورية الحياة قد أنتجت كثيراً وغيّرت "فكرنا اليومي" في شتّى الصُعُد. ولكن تاريخيّاً، الثورة المضادّة تنتصر دائماً، وليس لأنّ الإنتقاضة مهدودة الحيل، إنّما لأنّها تسمح لقوى الثورة المضادّة أن تطبّق مشروعها، بمجرّد إشراكها في إنتاج الحلول الثورية للإجتماع السياسي في لبنان. وما فكرة "الحكومة المستقلّة" أو "الانتخابات النيابية المبكرة" أو غيرها، سوى أفكار جوفاء لا نملك كمنتفضين سواها، لأننا لم نفكّر بعد. لم نفكّر أنّ علينا أن نفكّر بالكلّ الإجتماعي، بجذرية الزمن الثوري، باستحالة الالتفاف على قوى الثورة المضادّة "ديمقراطياً".

علينا أن نفكّر بنظرية ثورية لا تعتمد في مشروعها للطبقات العاملة على قوى الثورة المضادّة. فحتى فكرة "استرداد الأموال المنهوبة" أو حتى المطالبة بأن تتحمّل البرجوازية أعباء العجز الإقتصادي، ناتجة عن إيمان ضمني بجهاز الدولة، هذا الإيمان هو الطريق الالتفافي للثورة المضادّة، وهو ينتج عن قصور النظرية الثورية، فآن الاوان أن نفكّر بالانتظام الثوري الذي يُلحِد في ممارسته التحويلية للمجتمع بالدولة، ولن يأخذه هذا الإلحاد إلّا إلى التنظيم-الذاتي للطبقات المتضرّرة (1)، نحو إعادة انتظام الاجتماع السياسي في لبنان على أساسات انجذابية وليس انتباذية للصراع الطبقي.

لقد أكّد لنا الاختبار حتّى الآن، طوباوية كلّ الحلول التي ظنّنا كمنتفضين أنّها ناجِعة، بما أنها تُشرِك لتحقيقها قوى الثورة المضادة وتسمح لها بأن تلتفّ على أي حلّ كإلتِفاف حكومة حسّان دياب على حلّ "الحكومة المستقلّة". ليس هناك من مستقلّ، إمّا أن تكون مع الثورة أم ضدّها. وقوى الثورة المضادّة لن تسلّم المسؤولية لمن أجبرته الضرورات أن لا يرى في لبنان سوى أفق الثورة. علينا إذن في مدخل النظرية الثورية أن نفكّر بصيرورة ثورية، أو مشروع ثوري، لا يعتمد في حدوثه على قوى الثورة المضادّة.

تفكيرٌ من هذا النوع عليه أن يكون بعيداً كل البعد عن المعالجات الاقتصادوية للأزمة، بحيث أنها دائماً معالجات إصلاحية "علموية"، حتى وإن ساعدتنا على تجاوز الأزمة الحالية، سوف تخدم الأوليغارشيا - حتى وإن كانت ماركسية النبرة- بما أنّها لا تهدّد جذريّاً بنية المجتمع النيو-كولونيالي الذي نعيش فيه. فالتفكير الثوري، أو التفكير الجذري، هو تفكيرٌ بصيرورة الكلّ الإجتماعي الذي يتشابك داخله الاقتصادي مع السياسي مع النفسي مع الايديولوجي... وهنا لا نملك نظرية ثورية بعد، نملك عنها ملامِح مناسِبة جزئيّاً للمرحلة الراهنة من البنية الاجتماعية. نجد هذه الملامِح عند بعض المفكرين الماركسيين العرب: مهدي عامل، سمير أمين،... ونجد بعضاً آخر عند مفكرين "ماركسيين" غربيين: لوفابر، التوسير، سلافوي جيجك،...

هذه الملامِح تضعنا على خطّ التفكير النظري الثوري في العديد من الإشكاليات الراهنة والمرتبطة بعملية التحويل التي تحاول الطبقات العاملة أن تقوم بها في لبنان، مثلاً، عند مهدي عامل؛ أوّلاً، تحديد نمط الإنتاج اللبناني كنمط رأسمالي تبعي، أو بالأحرى نمط كولونيالي (2)، (أو بالأحرى نيو-كولونيالي). ثانياً، دراسته للحركة المحورية للصراع الطبقي (3). ثالثاً، تطويره للفهم الثوري لممارسات الصراع الطبقي (4). ثالثاً، معالجته لمشكلة "التراث والحداثة" بطريقة تشابكية وتطورية لا ترتهن الى إملاءات النموذج الغربي ولا تتقوقع في عصبية النموذج الاسلامي (5). خامساً، التصور الذي وضعه للصيرورة الثورية في المجتمعات الكولونيالية ولدور الطبقة العاملة فيها (6).

من التعمّق في هذه الأفكار ومن تجريبها في الممارسة الثورية يأتي النقد ومن النقد تأتي النظرية الجديدة. فهذا المقال ذات هدف تقديمي وليس توسيعي لذلك لن نخوض في ملامح النظرية الثورية في تراث المفكرين الآخرين ولن نعمّق هنا حتى تلك الأفكار المستقاة من مهدي، إنّما سوف نُشير فقط إلى أنّ تلك الأفكار العاملية، كانت تشكّل في ما مضى أساسات جدّية للنظرية الثورية، إلّا أنّها لم تعُدْ تنطبق في كل مفاصلها على الواقع الثوري الحالي. فما يهمّنا منها هو المنهج أكثر من المحتوى؛ لأنّ فهم مهدي عامل لِماركس - برغم تميّزه- بقي فهماً تاريخاويّاً، قانونيّاً، وضعيّاً، آتٍ بِغالبهِ من التفسير الألتوسيري لِماركس وقطيعته المعرفية ووضعه لِـ"علم صراع الطبقات" الذي يتبع قوانين التاريخ الصارِمة والتي تجد في السياسيّ كل نقط انصهارها. ربّما كان هذا الفهم مثمراً للحركات الثورية في تلك الحقبة؟ ولكن الآن بعد تغيّر كل الظروف التاريخية يجب أن يتطور ويتشعّب ويتفكّك فهمنا لِماركس.

فالفكر الماركسيّ أيّ الثوري قد تطوّر وتشعّب كثيراً منذ ألتوسير ومهدي إلى يومنا؛ فبعد التفكيكية، وتطوير الجانب الاجتماعي من التحليل النفسي مع جاك لاكان، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي أنتج "إيماناً" بالصين يعاني منه البعض من رفاقنا، وبعدما تأقلمت الرأسمالية المتأخرة مع أزماتها وطوّرت قوى الثورة المضادّة المُعدّة لإسقاط الأفعال والأفكار الثورية وهي في مرحلة النشوء، وبعد التفسيرات الماركسية الجديدة لصيرورة التاريخ وتفاعلية المجتمع عند سلافوي جيجك خاصةً. نستطيع أن نقول أنّنا متأخّرون جداً. لقد كنّا في حالة ركود نظري، وآن لنا أن ننفض الغبار الكلاسيكي عن أذهاننا وأقلامنا لكي نعي أنّ الممارسة النظرية وحدها، تعطي للحركة الثورية الهدف والمعنى. لذلك كان هذا النضال في الشارع - على مدى أكثر من أربعة أشهر- يدور في حلقة مفرغة من ناحية إنتاجه الثوري وتغييره للبنية الاقتصادية- السياسية؛ جلّ ما غيّره، كما قلنا سابقاً، يقع في الحياة وليس في التاريخ، أي على مستوى الأفراد وليس على مستوى الكلّ الإجتماعي.

ضرورة الإنتاج النظري الثوري قد تعاظمت في هذه الأثناء، ومن تنبّه إلى نظرية المراحل الثلاث عند مهدي عامل، يعلم أنّ لا مجال لتطوير نظرية ثورية من دون أن ننقد ونشتمل فيها نظرية المراحِل تلك، فالطبقات العاملة لا يجب أن نتتظر بعد الآن برجوازية صغيرة تمارِس المرحلة الإنتقالية نحو الإشتراكية، بل يجب أن تُمارِس الطبقات العاملة "تنظيماً- ذاتياً" كحلّ ثوري لا يرتبط بقوى الثورة المضادّة، إنما "التنظيم- الذاتي" يتخطّى فكرة "التنسيق" بين المجموعات، ليصل إلى انتظام اجتماعي- سياسي- اقتصادي جديد في المناطق اللبنانية، بحيث يشكّل تحويلاً ثوريّاً لانتظام البنية الإجتماعية الكولونيالية وضروراتها، كما لتخفيف سطوة الثورة المضادّة على عملية التحويل. وبالتالي علينا أن نُعيد الاعتبار لكلّ الميادين الثورية من الاقتصاد، إلى العلوم الإنسانية، إلى الفنون، وصولاً إلى الفلسفة؛ بحيث أنّ كمية التناقضات في مجتمعنا الـ"نيو- كولونيالي" لا يمكن حلّها بميدان واحد من التفكير الثوري؛ خاصةَ الاقتصادي. على هِمّة أن لا يكون العمل على النظرية الثورية عملاً فردياً - كما عانى مهدي- إنّما عملاً اجتماعيّاً تتكامل فيه ميادين التفكير لنصل إلى آفاق نظرية مُكشِّفة تعطي لكلّ ما يحدث في الشوارع والساحات معناه الثوري وغايته التاريخية.


المراجع:
(1) قد يكون هذا النوع من الممارسة الثورية هو الترهين المشتبِك لنموذج ديكتاتورية البروليتاريا في الماركسية الكلاسيكية.
(2) راجع: مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني، دار الفارابي، بيروت، ط (7) 2013، ص. 449
(3) المرجه نفسه، 71
(4) المرجع نفسه، 55
(5) راجع: مهدي عامل، أزمة الجضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟، دار الفارابي، بيروت، ط (2) 2002
(6) راجع: مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني، دار الفارابي، بيروت، ط (7) 2013، ص. 444

 

  • العدد رقم: 373
`


عبدالله غطاس