تحية إجلال واكبار لأسرانا أربع رياح المعمورة...


... في المجيء إليها، في هذي الحياةِ، لا أحدَ يختار الألمَ ليل نهار، وفي غمارها وجوهٌ مستبشرةٌ تهَبُ البسمات، وهي صلاةٌ من نسغ صِلاتٍ إنسانية.

عند مآوي الأجساد، ثمة امتلاءٌ لأعمارٍ بأكملها، كما لو عمليةٌ سيكولوجية فيزيولوجية تجري، هنا في طاحونة النفس والبدن، تُصهَرُ فيها السلبيات، تُطرحٌ خارج الجدران؛ وكما يُقال للحيطان آذان، وصورٌ في كلِّ المناسبات، تبدأ من أوّل قطرة دم، حيث الدّموع مكشوفة، والعبارات مرفوعة، وبيانات الإستسلام مرفوضة.
هنا، المشاهدُ لامتناهية، وهي لمّةُ الصغار والكبار، لا تنتهي حكايات الشهادةِ والأرض، وهي زادُ المنفيين أربع رياح المعمورة، في رحم الغربةِ خيامٌ العقود، التي تضمُّ الأماني والآمال والآلام، التي تحفظ التراث ولكنات القرى، لكأنَّ المجرٌات بأكوانها هنا، تلفُّها الأعلام، والأعوامُ السِمان بخيرها، والسنون العجاف ستائر الطفولة والصِبا، زنود الملاحم، والحلم لا يتبدّلُ أو يتغيّر، والطريق واحدٌ إلى فلسطين، لا نُهزم.
هنا، عبر تلك النوافذ المَطريِّةِ الشغف، قمرٌ بهيُّ الطلعة، شمسٌ واسعة الضحكات، وخيوط النظرات تُحاكُ بحُلمِ التحرير والإنتصار، عيونٌ تترسّلُ رعشات الفجر والمساء، وأم كلثوم تنشد "إلى فلسطين خذوني معكم".
هنا، لا ينقضي الوقتٌ، لا الذكريات، كما لو تتجدّدٌ لأجل العودة، والبيوت في ما بعد، تضمُّ غرفاً متواضعة بأثاثها وأناسها، وفي كلِّ زقاق أنفاسٌ وشعارات محفوظة، خطوات غائرة نذهبُ بها بتكاثفٍ غريبٍ حفيٍّ برغم الروائح المتعارقة الهواء، وبتثاقل المرارات يتوسّعُ المكان لأرواحٍ مقبلة، لشهداءَ ملفوفين بذات الألوان، كأنّهم على موعدٍ واحدٍ للقاءٍ آخر، فلا تنكسر أرحام الأمهات... تُنجِبُ فلذات الفدائيين، تُرى مَن علّمَ الجنين آيَ الثورة والثوّار...؟ مَن غذّى وأرضعَ حليبَ الطُهر...؟ مَن اعتمرَ ثراه ليذهبَ عميقاً في الأرواح...؟
هنا، "التُرابات من طيبٍ وطربٍ"، "والأرض بتتكلم عربي"، والعقود السبعة تقاوم النسيان، ذاكرةٌ تتوالى من جيلٍ إلى جيل، والحياة بصورها تتمظهر إرادةً وعزيمةً وثبات؛ فالحنين يتشاذى من هواء البلاد، ينثر بذوره أنّى أسفارنا، من تلك التُرابات التي صورتُنا، من أصداف الشطآن توشوشنا، من تلك الرؤى القديمة هناك، التي تعبّرُ عن مكنوناتٍ ومشاعر، والحلم واحد.
في منافينا، في هذي المنافي "الرحبة" الجراح، تفتح على اتّساعها، لمشاهد وأفكار وأنماط حياة، وتحت كلِّ سقفٍ وفوقه، قمرٌ من الماء إلى الماء وشمس، قمرٌ في السماء لحيٍّ وزُقاقٍ وشارع، وأقمارٌ هنا تتفتّحُ ذاكراتٍ حيّةً، ولضوضاءِ الدّموع وجناتٌ وملامحُ وأعمارٌ خلت، والحياة كحلقاتٍ دامية عربية بامتياز، وعميقاً أجسادٌ تنضجُ وأرواح، تنضح قهراً واغتراب.
كلّنا، جموعنا في القالب الواحد الحديديّ، تُنزع عنّا صفة أصيل لأجل دخيل. المتسلّطون أولاء، مرابو العصر، بائعو الشعوب والأوطان، القتّالون الناشرون الصالبون لنا منذ أوّل صرخةٍ وقطرةِ دم. مسلسلٌ دراميُّ يتواصل بكتّابٍ ومخرجين من كلِّ محفلٍ صهيوني، ونحن أكبر كومبارس عربي فوق كوكب الأرض، مؤلّف من أربعمائة مليون شخص باللونين الأحمر والأسود، كأنّما نمط حياةٍ بلا انتهاء، والنهاية معقودة لمزيدٍ من القتل والتقهقر والاستسلام، لمزيدٍ من الخضوع للغاصب الصهيوني ولتفوقه على الصعد كافّة.
لوقتٍ طويل، يتحكّمُ بنا الجدلُ العبثيّ، ولوقتٍ يُكتبُ خارج التاريخ، لا بُدًّ لنا من الإعتراف الإيجابي، الإعتراف المصاحب لعملية الفهم والتطوّر والازدهار، والشواهد على سلبيات الاحتلال الصهيوني والاستيطان، لا تخفيها جُدر العزل، وكلّ ذرة تراب وحصاة، تحمل سرديتها، وقصص الناس، لا تتعب منها المنافي، فهل تُخفى، كيف...!!
جيناتنا، كلُّ ما فيها ضدَّ الصمت والنسيان، وفيها الجغرافيا والماء والتاريخ والشّهداء، فيها الأحساب والأنساب، صلة الدّم والأسماء... حتى الشواهد، والمعابد وسوح النضال، وتلك اليوميات والشعارات، تلك النضالات، تكشف عن أثواب السعادة والسُعاة، لتلك المدن والقرى والعائلات، المتوزّعةِ الأزقةِ والحارات، في مخيمات الشتات، ولكلّ مخيم، قمرُهُ وشمس فلسطين، الممهورة النّور والضياء، لأسرانا الأبطال، يهبوننا عزائم الصمود، العظام، أسماؤهم تحت الجلود ومجرى... الذين تحت أقدامهم الجنّات، ألف سلامٍ وتحية عبر مشارق الأرض ومغاربها.

 

*كاتب لبناني – مسؤول الصفحة الثقافية في مجلة النداء.

  • العدد رقم: 375
`


أحمد وهبي