اكتشاف الكورونا والاستجابة الصينية


"في مواجهة فيروس غير معروف من قبل، قادت الصين ربما أكبر حملة محاصرة فيروس طموحًا وعدائية وقوة على مر التاريخ. ومن المدهش الكم الهائل من المعلومات الذي جمعته حول الفيروس الجديد في وقت قصير".

تقرير البعثة المشتركة لمنظمة الصحة العالمية إلى الصين


تقديم
عملت وسائل الإعلام الغربية لعدة أشهر على تصوير مرض كورونا المستجد على أساس أنه مشكل صيني واستغلته لنشر الكراهية والعنصرية ضد الصين سواء كنظام اقتصادي أو ثقافة أو شعب. وبعد اجتياح الجائحة للبلدان "المتقدمة" وفشل منظومتها الصحية النيولبرالية، وانهيار الأسواق المالية وتراجع أسعار البترول إلى حدود لم يسب لها مثيل، وغياب أي بديل يضع حياة العشوب قبل مصالح الشركات، توجهت الدعاية الغربية إلى التركيز على الصين مجددًا، واعتبارها السبب في تفشي الوباء، واتهامها بإخفاء المعطيات وتضليل العالم. كل هذا من أجل التغطية على أزمة النظام الاقتصادي العالمي وهشاشته أمام الصدمات، تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. وعوض التركيز على إنقاذ حياة الناس، تتخذ الحكومات في الدول الغربية كل ما يمكن من أجل إنقاذ الشركات وإعادة تحريك عجلة الاقتصاد، وإن تسبب الأمر في إصابة ملايين المواطنين، والتضحية بهم.
ويعتبر هذا المقال محاولة أولى لتسليط الضوء على كيفية تعاطي الصين مع جائحة كورونا، وما هي الدروس التي يمكن لشعوب العالم استلهامها من التدابير الصحية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي مكنت الصين من مقاومة الجائحة وتسجيل أدنى معدلات الإصابة، في الوقت الذي انتشرت الكورونا كالنار في الهشيم بدول لطالما اعتبرت أحسن الأنظمة الصحية والاجتماعية في العالم. وسنركز في هذا المقال على التدابير الصحية، ونترك التدابير الاجتماعية والسياسية للمقالات المقبلة.

البداية: الحالات الأولى لكوفيد-19
سجلت حالات مرضى بارتفاع درجة الحرارة وضعف التنفس في عدة مؤسسات صحية بمدينة ووهان منذ الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر2019. وبعد أسبوعين من الفحوصات والاختبارات التي خضع لها المرضى من أجل تشخيص المرض. وفي يوم 27 ديسمبر 2019، صدر أول تقرير يفيد بتسجيل عدة حالات لمرضى بترشح الرئوي غير معروف السبب . وقد جمعت هذه الحالات في المستشفى الاقليمي لووهان، وحددت بؤرة العدوى في سوق السمك الذي أغلق في 31 ديسمبر، وتعرضت المنطقة للتطهير الشامل.
وقد نص تقرير 27 ديسمبر على وجود أعراض مرض فيروسي معدي، وعلى أن فرق العمل الطبية تجري الاختبارات للتعرف على نوع الفيروس المسبب للمرض. وقد عممت لجنة الصحة بمستشفى ووهان المركزي مذكرة، نشرت على موقعها الرسمي وبعثتها لجميع المراكز الاستشفائية بالمدينة يوم 30 ديسمبر، تفيد بظهور وباء تنفسي غير معروف السبب بالمدينة. وفي اليوم الموالي، أصدر مستشفى ووهان تقريرًا حول ظهور مرض تنفسي غير معروف السبب، نشر للعموم على موقعه الرسمي وأبلغ به مكتب المنظمة العالمية للصحة بالصين.

كان فريق الاختبار يحاول التعرف على الفيروس عن طريق إجراء اختبارات خاصة بالعديد من السلاسل الفيروسية المعروفة، وقد اعتقد بعضهم أن الأعراض تشير إلى مرض متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد SARS. من بين هؤلاء الخبراء هو الدكتور لي وينليانج الذي نشر لزملائه، في مجموعة على قنوات التواصل الاجتماعي الصينية، أنه يعتقد أن الفيروس المسبب للمرض هو SARS-CoV (أحد فيروسات كورونا الذي ظهر بأسيا سنة 2003 ويتنقل عبر الحيوانات) ودعاهم للحذر (كان يعتقد آنذاك أن سارس ينتقل فقط من الحيوانات إلى الإنسان) . وقد جاءت نتيجة جميع الاختبارات الفيروسية سلبية في الوقت الذي استنفرت فيه مراكز مكافحة الأمراض المعدية وتشكلت فرق البحث الوبائي تحاول التعرف على طبيعة المرض والفيروس المسبب له وأعطيت أوامر بإجبارية ارتداء الكمامات للعاملين بالمستشفيات والمراكز الاستشفائية بالمدينة.
كان فريق العمل يتكون من خبراء الوبائيات وعلم الفيروسات في مستشفى تونغجي الإقليمي للسيطرة على الأمراض، ومعهد ووهان للفيروسات، والأكاديمية الصينية للعلوم ومستشفى ووهان للأمراض المعدية ، ومركز ووهان لمكافحة الأمراض.

البلاغات والإجراءات الأولى:
أغلق سوق السمك وتم تنفيذ إجراءات التطهير في منطقته. كما تم إجراء الاختبارات المعملية على جميع الحالات المشتبه فيها التي تم تحديدها من خلال اكتشاف الحالات النشطة والمراجعة بأثر رجعي. تم استبعاد مسببات الأمراض التنفسية الأخرى مثل الإنفلونزا وأنفلونزا الطيور والفيروسات الغدانية واستبعد فيروس كورونا التاجي (SARS-CoV) المسبب لمرض SARS، كما استبعدت متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS-CoV) كسبب.
وقد أسفر التحقيق الوبائي والتحليل المختبري الأولي للحالات المذكورة أعلاه عن كونها مصابة بالالتهاب الرئوي الفيروسي. ولم تتمكن إلى حدود 31 ديسمبر من اكتشاف نوع الفيروس المسبب.
ظل مستشفى ووهان الإقليمي يصدر بيانات شبه يومية عن هذا المرض وعدد المصابين وعن نتائج التحاليل المخبرية ولم يكن الأمر سراً من أسرار الدولة.
وقد أعلنت اللجنة الطبية بووهان عن اكتشاف فيروس جديد وصفته بـ "فيروس الالتهاب الرئوي الغير محدد Unexplained Viral Pneumonia.

التعرف على الفيروس المسبب:
عزل الفيروس المسبب للمرض يوم 7 يناير 2020، وتم التعرف على كونه ينتمي إلى عائلة فيروسات كورونا، ونشر الفريق الطبي المعلومات المرتبط بالأعراض السريرية للمرض (أعراض متواترة مثل الحمى والتعب، مصحوبة بالسعال الجاف، وضيق التنفس أكثر شيوعًا في المرضى في المستشفيات. كان لدى الغالبية العظمى من المرضى علامات حيوية مستقرة بشكل عام عند القبول) به وأشار إلى أنه لا توجد معطيات تشير إلى انتقال عبر البشر. وسجلت حالة وفاة واحدة إلى حدود 11 يناير (امرأة تبلغ 60 سنة) وأصدر المستشفى على موقعه الرسمي بيانات وتصريحات خبراء في الموضوع .

تم الانتهاء من اختبار الحمض النووي للفيروس في الساعات الأولى من يوم 10 يناير 2020، وأصدرت اللجنة الطبية بيانًا تصرح فيه أنه فيروس كورونا مستجد، وقد سجلت إصابة 41 شخص توفيت منهم إصابة واحدة، وتماثل اثنين للشفاء وغادرا المستشفى بينما ظلت الإصابات الاخرى مستقرة.

خطة العمل الصحية:
نبّهت الصين منذ نهاية ديسمبر إلى خطورة الوباء (لهم تجربة جائحة كورونا SARS منذ سنة 2003) ووضعت خطة عمل للتشخيص والعلاج تتضمن: تعميم الاختبارات والكشف المبكر، والتشخيص المبكر للإصابات، والعزل المبكر، والعلاج المبكر، وتركيز الخبراء والموارد للعلاج الكامل، بالإضافة إلى إجراء تحقيقات وبائية متعمقة وضمنان تواصل إعلامي مستمر للتوعية والأخبار بخصوص تطور الوباء (عممت توجيهًا للسكان بتجنب الأماكن العامة المغلقة وغير المتداولة والأماكن المزدحمة، وارتداء الأقنعة إذا لزم الأمر. والاتصال بالمؤسسات الطبية في حالة ظهور اعراض من الحمى وأعراض عدوى الجهاز التنفسي ، وخاصة الحمى المستمرة).

بعد ذلك ببضع أيام ستعلم اللجنة الطبية أن أمكانية العدوى من الإنسان للإنسان واردة، وشدّدت على ضرورة أن يقوم المخالطون للمصابين (أقارب، أصدقاء، أطر طبية) بالعزل الصحي لمدة 14 يوم.

إلى حدود 16 يناير سجلت 41 حالة مع تماثل 12 حالة للشفاء، وقد بدأت وزارة الصحة في إجراء اختبارات واسعة وعزل المخالطين للمرضى من أجل متابعة حالاتهم.
بعد ذلك تضاعفت الفحوصات وازداد عدد الحالات، وتحول الوباء إلى جائحة عالمية لم يعطى اسم الفيروس المسبب لها حتى 11 فبراير 2020 عندما سمته منظمة الصحة العالمية COVID-19. وقد تمكنت الصين من احتوائه بسبب نظامها الصحي ذي الجهوزية العالية والقدرة على التعامل مع الأزمات الصحية وتدابير الدولة (تعميم الاستشفاء وتوجيه عمل شركات التصدير نحو توفير اللوازم الطبية والحمائية اللازمة لجميع المواطنين، الدعم الاجتماعي، والتواصل المستمر والتوعية الشاملة).

كورونا: صناعة أم تطور طبيعي
نشرت مجلة Nature العلمية دراسة تستبعد كونه صناعي وتطرح فرضيتين، سواء إن نتج عن تطور طبيعي للفيروس في بيئته الحيوانية الأصلية ثم انتقل للإنسان، أو إنه تطور داخل الإنسان بشكل طبيعي من فيروس كورونا آخر. كما صرح العديد من المتخصصين بأن الفيروس قد تطور بشكل طبيعي ووقع أكثر من 27 متخصص من مناطق العالم رسالة تضامن مع الأطباء وعمال الصحة في الصين وتثمين لجهودهم في مقاومة الوباء. وقد نفت الرسالة أي تماطل بخصوص المرض إذ ابتدأت بـ:
"نحن علماء الصحة العمومية الذين تابعوا عن كثب ظهور مرض فيروس كورونا الجديد (COVID-19) لعام 2019 ونشعر بقلق عميق إزاء تأثيره على الصحة العالمية والرفاهية. لقد شاهدنا أن العلماء، والمتخصصين في الصحة العمومية، والمهنيين الطبيين في الصين، على وجه الخصوص، قد عملوا بجد وفعالية لتحديد العامل المُسبب لهذا التفشي بسرعة، ووضع تدابير مهمة للحدّ من تأثيره، ومشاركة نتائجهم بشفافية مع المجتمع الصحي العالمي. هذا الجهد كان رائعًا".
وأكدوا على انهم يوقعون على هذا البيان تضامنا مع جميع العلماء والمهنيين الصحيين في الصين الذين يواصلون إنقاذ الأرواح وحماية الصحة العالمية خلال التحدي المتمثل في تفشي COVID-19. واعتبروا نفسهم في نفس المستوى من الصراع الذي يتقدمه زملاؤهم الصينيين.
كما أكدوا على أن الصين قد وفرت كافة البيانات منذ الأسابيع الأولى للأزمة عكس ما تروّج له وسائل الإعلام الغربية. كما أكدوا على أن المشاركة السريعة والمفتوحة والشفافة للبيانات حول هذا التفشي قد مكنت من التعرف المبكر عليه وعزل جينومه توفير وسائل اختبار الكشف عنه بالإضافة إلى سنّ تدابير مكنت وتفادي ملايين الخسائر التي كانت ستقع لو تأخر الأمر.
وقد نفت الرسالة أي أصل مختبري للوباء وأكدت على أن هذا الفيروس التاجي نشأ في الحياة البرية كما هو الحال مع العديد من مسببات الأمراض الناشئة وعلى أن وهذا مدعوم أيضًا برسالة من رؤساء الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم والهندسة والطب. واختتموا رسالتهم بـ "نريد أن تعلموا، خبراء العلوم والصحة في الصين، أننا نقف معكم في معركتكم ضد هذا الفيروس".
وقعت هذه الرسالة من طرف 27 عالم من علماء الصحة العمومية من 9 بلدان ومن ضمنهم ومن بينهم جيريمي فارار، مدير صندوق ويلكوم ترست في المملكة المتحدة، وجيم هيوز، المدير السابق للمركز الوطني للأمراض المعدية في الولايات المتحدة الأمريكية، وريتا كولويل، الرئيسة السابقة لمؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية وقادة آخرين في أبحاث الأمراض المعدية.

***

1https://www.who.int/docs/default-source/coronaviruse/who-china-joint-mission-on-covid-19-final-report.pdf
2 Hubei Provincial Hospital of Integrated Traditional Chinese and Western Medicine, Houhu District of Wuhan Central Hospital, Wuhan Red Cross Hospital and other hospitals Hubei Provincial Hospital of Integrated Traditional Chinese and Western Medicine, Houhu District of Wuhan Central Hospital, Wuhan Red Cross Hospital and other hospitals


3 تقرير صادر يوم 27 ديسمبر 2019 من طرف الدكتورة Zhang Jixian التي تعتبر أول من سجل تفشي المرض الجديد، وهي مديرة شعبة الطب التنفسي بمستشفى هيوبي الجهوي، وخبيرة في مكافحة وباء SARS الذي تفضى ببعض المناطق بالصين سنة 2003.
http://www.xinhuanet.com/english/2020-04/16/c_138982435.htm
4 صدر التقرير يوم 31 ديمسبر 2019
http://wjw.wuhan.gov.cn/front/web/showDetail/2019123108989
5 لي ويليانج هو دكتور في مستشفى .... وعضو في الحزب الشيوعي الصيني. تعرض للتحقيق بصدد تصرحاته، وسحبها بعد أن اقر بأنه لم يحسم بعد في نوع الفيروس وأنه كان من الخطأ ترويج هذه المعلومات قبل التأكد الفعلي. توفي لي ويليانج بعد اصابته بالفيروس المستجد وخلدته السلطات الصينية كبطل قومي.

6 http://wjw.wuhan.gov.cn/front/web/showDetail/2020011109036
http://wjw.wuhan.gov.cn/front/web/showDetail/2020010509020

7 دراسة حول تقنيات عزل الفيروس
https://www.nature.com/articles/s41586-020-2012-7

8 http://wjw.wuhan.gov.cn/front/web/showDetail/2020011109035
9 http://wjw.wuhan.gov.cn/front/web/showDetail/2020011509040
http://wjw.wuhan.gov.cn/front/web/showDetail/2020012409134
10 It is improbable that SARS-CoV-2 emerged through laboratory manipulation of a related SARS-CoV-like coronavirus.
https://www.nature.com/articles/s41591-020-0820-9

11 https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(20)30418-9/fulltext

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 378
`


غسان كومية