حكومة النعاج وذئاب الغاب

 قد تكون هذه الخواطر مشتّتة، مبعثّرة وغير مترابطة، وقد ينقصها القلم الصحافي الرفيع أو البلاغة الأدبية أو حتى التحليلات الإستراتيجية للخبراء وما أكثرهم هذه الأيام، ولكن وبدون أدنى شك أنها صادرة عن قراءة واضحة لعمق معاناة ذلك اللبناني "العبد الفقير" الذي أنهكته منظومة السلطة الحاكمة والنظام الفاسد فسلبوا منه كلَّ حقوقه في العيش والحياة.

بقراءة سريعة لتدحرج الأمور منذ تشرين الأول لعام 2019 والتي لا مجال للتوسّع نرى :

- أن ولادة حكومة د. حسان دياب كانت نتيجة لما كان ممكناً (رغم قناعتنا بأنه لم يكن أفضل الممكن) في إطار تشابك الظروف الموضوعية والذاتية آنذاك، ولتتشكل حكومة " أشبال الوطن للمَهمات الصعبة ". لقد ولدت هذه الحكومة مع شعاع ضئيل من الأمل في الإنقاذ والتغيير، ذلك الشعاع الذي حجبته غابة الطائفية والفساد، فسرعان ما انقضّ ذئابُها المتناحرون والمتحالفون في آن على أولئك الأشبال؛ فجعلوهم كنعاج طيّعة في أيديهم لتحقيق أهدافهم والحفاظ على مكاسبهم.

- انّ موقف حزب الله كأحد وأهم رعاة وحماة هذه الحكومة كان منطلقاً من منظور مكانته في المعادلة الإقليمية) وليست الداخلية، (من أجل الحفاظ على المقاومة وحماية سلاحها، مدركاً التفاصيل والمتعرّجات المسيطرة على الطبقة السياسية في لبنان واضعاً نفسه على حدود التماس بين غابة النظام الطائفي التحاصصي القابع تحت سيطرة طغمة مالية مصرفية فقدت كلَّ معاني الإنسانية، طامعةً في جني الأرباح، مستبسلةً في الدفاع عن مصالحها، مغتصبةً كلّ السلطات ومنتهكةً كلِّ الشرائع، وبين حديقة الوطن المشعة بشمس الحرية والحاضنة للمقاومة (وطنية كانت أم إسلامية ) ولكلّ المتعَبين من أبناء الوطن بكلّ أطيافه، القابعين تحت خط الفقر أو ما يعادله.. الفاقدين لأبسط أشكال الحماية المعيشية والإجتماعية والصحية، الذين خرجوا شباناً وصبايا، نساءً ورجالاَ، كهولاً وأطفالاً شيباً وشباباً. خرجوا للتعبير عن معاناتهم وآلامهم في شكل حراك أو إنتفاضة (لا خلاف على التسمية) إنطلقت شرارتها في 17 تشرين، فكانوا ولا زالوا حركة تفتقد لبرنامج ثوري ولقيادة ثورية تقودها من أجل إنتاج النظام البديل وتحقيق كلّ أهدافها المرحلية والاستراتيجية، مما سمح للمستنقعات المندثرة على جوانب الحديقة والمليئة بالأوبئة الطائفية والحشرات المنفّذة لأجندات خارجية من نشر بعض البرغش وبثِّ بعض الروائح الكريهة للتقليل من رائحة العطر المنبعث من حديقة الوطن (وهو ما لمسناه في أكثر من محطة ولا سيما آخرها في تحركات 6 حزيران 2020.

أمام هذا المشهد من تطور الأحداث وتراكماتها، تعمل أطراف هذا النظام متحالفين في العلن أو الخفاء، من داخل السلطه أو من خارجها، للإلتفاف على حركة الجماهير ملوّحين تارة بالحرب الطائفية- المذهبية أو الأهلية، وتارةً بالضغط على أحوالهم المعيشية عبر فلتانٍ مبرمج في السياسة النقدية، وعلى تقويض عمل هذه الحكومة (بغض النظر عن عدم فعالية مجلس النواب - أرانب مفتّحة عيونهم نيام) وفرض سياسات تلائم مصالحها والإلتجاء إلى "الشحادة" من صندوق النقد الدولي بشروطه المعادية لمصالح وتطوّر الشعوب تحت شعار إنقاذ الحالة المالية والحفاظ على أموال المودعين، إنها في الحقيقة هي الخديعة الكبرى فعن أي إنقاذ يتحدّثون..؟ وعن أي مودعين يدافعون..؟ إنهم، وبدون شكّ، يتحدّثون عن إنقاذ نظامهم الفاسد، إنقاذ ما تمكّنوا من سرقتة من أموال الشعب المسكين، إنقاذ مواقعهم في السلطة، يدافعون عن أنفسهم فقط، عن أصحاب الودائع الكبيرة وحيتان المال، عن المصارف وأرباحها، ليس عنك أيها الشعب المسكين وليس عنكم أصحاب الودائع الصغيرة، والتي لا تتجاوز ودائعكم جميعاً المليار دولار حسب تقرير المصرف المركزي.

إنها الخديعة الكبرى عندما تراهم يذرفون الدّموع وتعلو حناجرهم بالنحيب على أولئك الذين هاجروا وتعبوا في دول افريقيا والخليج وأودعوا "جنى العمر" في المصارف اللبنانية، ولم تذرف لهم دمعة ولم يرف لهم جفن على أولئك الذين قدّموا أغلى ما هو من الثروات والذهب.. بذلوا حياتهم ودماءهم، شهداءَ من أجل الوطن.

على الصعيد المالي والنقدي، إذا كانت أرقام البنك المركزي حقيقية وواقعية (اللهمّ إنها أرقام وهمية)، فلماذا ضمن خطة مرحلية مدروسة من الحكومة والبنك المركزي بعيداً عن الإستدانة الخارجية لن يتم الإفراج عن الودائع الصغيرة (مليار من أصل 21 مليار من موجودات البنك)..؟ ولماذا لا يقتطع مبلغ 2 مليار لتلبية حاجات الدولة والسوق معاً (بديلا عن "الشحادة" من صندوق النقد)..؟، فسيّان إذا كان الإفلاس سيأتي عن مبلغ بقيمة عشرات العشرات من المليارات أو بزيادة 2 مليار عن ذلك، مع العلم أن هذا المبلغ يمكن إقتطاعه من الودائع الكبيرة وحيتان المال والمصارف والذي يشكّل نسبة ضئيلة ممّا بحوزتهم من المليارات (داخل أو خارج لبنان)، بدون الدخول في التفاصيل إذا كانت شرعية أو غير شرعية، فلتكن زكاة أو تضحية من أجل الوطن.

إنّ هذا الحل قد يذري قليلآً من الرماد على نار الإنتفاضة الملتهبة، من أجل فسح المجال لإعادة ترتيب الوضع المعيشي وضبط الفلتان النقدي وما يترّتب عنه من إرتفاع سعر صرف الدولار وأسعار السلع والحاجيات والإنتقال لتحقيق مطالب الإنتفاضة وأهمها :

- إنتاج قانون عصري للإنتخابات النيابية بعيداً عن القيد الطائفي واعتماد النسبية على أساس لبنان دائرة واحدة كخطوة تؤسس لإلغاء الطائفية وبناء الدولة المدنية العلمانية، الدولة الوطنية الديمقراطية.
- وضع خطة تنمية تقوم على أساس الإقتصاد المنتج وليس الريعي ونظام ضريبي تصاعدي مع آلية شفافة للتنفيذ.
- إستقلالية القضاء، محاربة الفساد، إسترجاع الأموال المنهوبة.

بناءً على ما تقدّم، إن المرحلة الحالية تفرض على قوى التغيير:

- الوعي لمواجهة البوادر التي أعادت نشاطها مؤخراً في إتجاه ترميم بيت النظام العميق وفي هذا المجال، وللإستفادة من الوقت إن عدم طرح شعار إسقاط حكومة النعاج لا بل دعمها في الإستمرار وطرح الشعار البديل: "منح الحكومة صلاحيات تشريعية إستثنائية" قد يشكّل مرحلياً صدمة إيجابية في عملية إيقاظها والضغط لتحويل تلك النعاج إلى أشبال.. لا بل أسود تقف إلى جانب الإنتفاضة بوجه ذئاب الطائفية والفساد وكحلٍ لإبعاد البلاد أوللإلتفاف على ما يتردّد هذه الأيام من مشاريع وإحتمالات: الفوضى، الفتنة، حكومة تعيد إنتاج النظام نفسه، حكومة عسكرية.

فيا حكومة النعاج إستيقظوا قبل فوات الأوان، لا زالت الفرصة سانحة أمامكم فلا تضيّعوها، إن الإعتراف بالخطأ فضيلة وتصحيح المسار الوطني بطولة، فانتفضوا كما الشعب انتفض، لقد أُريدَ لكم أن تكونوا أشبال الوطن، فكونوا أبطاله ولا تخافوا الذئاب (فإذا لم تكن أسداً أكلتك الذئاب) واخرجوا من غابة الطائفية والفساد والمحاصصة المظلمة لتروا النور والدفء في حديقة الوطن حيث الجميع من أبناء الشعب الشرفاء بانتظاركم لتنقضّوا معاً على تلك الذئاب وتقتلعوا أشجار هذه الغابة.

- الوعي التام لعدم توجيه كلّ السهام فقط باتجاه تحديد سعر صرف الدولار، فالمعركة مع النظام ككلّ والتلاعب بسعر صرف الدولار جزء من هذا الكلّ. من هنا لا بدّ من التشديد على رفع شعار إسقاط حاكم مصرف لبنان كأحد مهندسي إفلاس الدولة و أحد أقطاب المؤامرة في تنفيذ مشاريع وأجندات خارجية لأمركة لبنان كليّاً.
- إستكمال عملية نضوج العلاقات في ما بينها لتكوين جبهة موحّدة لقيادة الإنتفاضة والاستفادة من خروج جمهور المقاومة وحزب الله عن صمته وانحيازه عن حدود التماس باتجاه الانتفاضة وفتح حوار معه لما في ذلك من أمل في تقارب الأهداف وإمكانية التنسيق من أجل حشد كلّ القوى المؤمنة وذات المصلحة في التغيير بعيداً عن تلك التي تحاول الإلتفاف على مكاسب الإنتفاضة لتشكّل بذلك ثورة مضادة لثورة المتعبين وما يتطلب ذلك من توحيد الشعارات لإنتاج برنامج موحّد يكون بوصلة النضال من أجل تحقيق كامل الأهداف والمطالب.

إلى الشارع بخطىً مدروسة وبرنامج موحّد بعيداً عن العفوية والتشرذّم. المقاومة وجدت لتنتصر في التحرير والتغيير.

 

  • العدد رقم: 380
`


د. نور أبي صالح