أهلاً بكَ في خندق جديد

 ليس من السهل شرح إلى أيِّ مدىً تتحكّم بنا الأنظمة عبر قواعد وُضعَت لضبطنا وتقسيمنا في جداول، فتسهل بالتالي عملية السيطرة علينا. الغريب أننا نعتقد حقاً بالحرية، نتباهى باختياراتنا على أنها تمثّلنا، رغم أنها محدَّدة لنا مسبقاً، وهذا ما يشبه كثيراً الديمقراطية السياسية في بلادنا.


أُجيزُ لنفسي القول إننا كنساء مدركاتٌ أكثر لهذه المعاناة، ربما لأنها تمارَس علينا بطريقةٍ مباشرة وأكثر قساوة من على الرجال. لا يَحسَبَنَّ أحدٌ ما أنه ناجٍ، إنّه فقط لم يَلحظ بعد.
والذكورية في تعريفها ثقافةٌ تُعبِّر عن السلوكيات والأفكار والقوانين والتفسيرات التي من شأنها سيطرةُ الذكور في مجتمعٍ ما على الإناث. وفي سبيل الحفاظ على سيطرة الذكور فإنها تمارِسُ عليهم مجموعةَ ضغوطات تجعلهم يشاركوننا الخندق. لا شكَّ أنهم أصلاً يشاركوننا المعاناة المعيشية ولكن مع حفاظهم على بعض الامتيازات التي تمنحهم منذ ولادتهم شرف التفوّق على الإناث.
ربما الرجال قد سئموا، على غير حقّ، سماعَ معاناتنا وشكوانا، ونحن إذا ردَّدناها كلّ يوم فلأنَّها تُمارَس علينا كلَّ يوم، تماماً كما تمارَس عليهم منذ صغرهم وحتى يومنا هذا. على الأغلب تبدأ السيطرة عند تحديد الألوان التي سنكمل حياتنا معتقدين أنها تمثّلنا، بل وتنوب عنَّا في مفاتيح الجداول الإحصائية، أذكر مرةً أنَّ أستاذ مادة الإحصاء قد وضع اللون الأزرق للنساء والزهري للرجال، ما أدى إلى سقوط الصف بهذا السؤال لأنهم اعتبروا أنه من البديهي أن يكون الزهري للنساء والأزرق للرجال، وعلى هذا الأساس حلّوا السؤال. مثالٌ صغير وبسيط لكنه لا شكَّ يوضِّح إدراكاتنا للمواضيع، والتي أصبحت «بديهية» فإذا ما خرجنا عن المألوف «سقط صف بكامله».
الأمور ليست في ذروة خطورتها إذا توقفت عند الألوان، هذه الثقافة قد قولبت حتى مشاعرنا، فاعتبرتنا كنساء معدومات من المشاعر الجنسية مثلاً، وحكمت على الرجال انعدامهم من العواطف والأحاسيس المرهفة ومنعتهم من البكاء، حتى طفل السنتين الذي يقعُ على رأسه للتو، ممنوع من البكاء! ويضطر لسماع جُمَلٍ مثل «إنت رجّال ما بتبكي».
نعم وعندما يكبر وينكسر ويتألم ويتمزَّق ممنوعٌ عليه حتى الشكوى...! «شدّ حالك» سيقولون...!
قد تحسب كلماتي هذه تفاهات، إلّا أنّ الناس تُحرَّم عليهم العاطفة وإظهارها، ويمنَعون حتى من التفكير بأنه بإمكانهم البكاء والصراخ حتى إذا ما تألَّموا، لن يتفاعلوا بشكل طبيعي مع الحياة ومحيطهم...! إلّا إذا كان المراد تربية آلات عنيفة وقوالب ثلج.
الشهر الفائت اضطُرِرتُ إلى خوض نقاشٍ حادّ مع والدي، الذي أراد من عريس متقدِّم لي، بيتاً وسيارة ومهراً وذهباً ولا أعرف ماذا...! يقول أبي هذا يحفظ حقَّ الفتاة، وتحاول أمّي تهدئتي وتقول «هو أب وليس مُلام». بغض النظر عن كرهي لفكرة المَهر باعتبارها صفقة بين رجلين «لشراء»؛ حرفياً لشراء بنت، إلّا أنّ كلّ ما كان يجول في خاطري هو قدرة الرجل على تأمين متطلّبات أبي. هو موظَّف معاشُه لا يتعدَّى الحدَّ الأدنى للأجور، ما يزال شاباً ولديه حياتُه الخاصّة التي حتى ولو استغنى عنها لن يستطيع شراء سيارة. الآن وقد عرضتُ وجهةَ نظري على أبي وأصدقائي كان الجواب موحَّداً وصادماً: «لشو يتزوج، كيف بدو يعيشك؟». إلى جانب الثقافة الذكورية التي تحمّله العبء لوحده، يتحمَّل النظامُ الاقتصادي وسياسات دولتنا المسؤولية...!
الثقافة التي حدَّدت لي مسبقاً دوري الاجتماعي كأم وربة منزل، حدّدت له دور المموِّل في العلاقة، ذاك الذي يدفع مصاريف البيت والمشاوير والسفرات والمدارس والملابس...
في المرّة المقبلة التي تلبس فيها ألواناً لا تحبها، في المرة المقبلة.. التي تدفع فيها عن صديقتك في المطعم وأنت على وشك الإفلاس وهي تمتلك الكثير من المال لكنّك الرجل، في المرة المقبلة التي تبتعد فيها عن حبيبتك لأنك غير قادر على الزواج منها، في المرة المقبلة حين تنبّه ابنتك من رجال آخرين، في المرة المقبلة حين تحتاج زوجتُك لمَن يغسلُ الصحون عنها ولا تفعل لأنك رجل، في المرة المقبلة.. التي تودّ فيها عناقَ صديقك لأنك مشتاقٌ
إليه لكنك تختار نبذَ مشاعرك، في المرّة.. تلك، التي تضطر فيها إلى مشاهدة فيلم رعب مع أنّك خائف، تذكَّر أنك جزءٌ من المشكلة وجزءٌ من الحل.