عزيزتي بيروت!...
أوّلاً، اقرأي معي هذا الشريط بانتباه، رجاءً:
كانت بيروت 1982 قد وُلدتْ.. كانت بيروت ينتشرُ احتراقُها على كل شبه القارة العربية، وشبه القارة العربية كلها كانت تتنشّقُ احتراقَ بيروت، ثم تتثاءب!
كان لبنان لا يزال رماداً يتكدّس، ولم يكن يتوهّجُ رَمادُه، بعد...
وكان عربٌ يحتشدون "للقات" ** وللكلام في صنعاء: عرَبٌ مشرقيّون ومغربيون، كتَابٌ وشعراءُ ومثقّفون...
للتاريخ: كانت تتشكَّلُ على جباهِ العرب المحتشدين "للقات" وللكلام في صنعاء، سحاباتٌ رمادية تكادُ تقولُ "شيئاً" عن لبنان يشبهُ كلامَ "الرثاء"!
وحده جبيني كان لبنانيّاً... أي وحده كان صريحاً واضحاً وصَلداً... أي وحده كان رافضاً كلّ أشكال الرماد والضباب.. جبيني اللبناني كان وحده مقتنعاً بلونه الربيعي.
ستقولون: كيف هذا؟
هل أميركا التي تستبيحُ قتلَ الزنوج من أبناء وطنها، فضلاً عن حرمانها إياهم أبسط حقوق الإنسان؟
هل أميركا التي تُعطي فرنسا المال والسلاح لإبادةِ شعب الجزائر؟
هل أميركا التي سفكَتْ طائراتُها دماءَ الأطفال في ساقية سيدي يوسف بتونس؟
هل أميركا التي أبادت نحو مئتيْ ألف إنسان دفعةً واحدة، في مدينتيْ هيروشيما وناغازاكي اليابانيتيْن، دون أن يطرفَ لها جفن، أو يختلجَ في ضميرها عِرق؟
تمثال الحرية، الواقفُ وقفتَه الشامخة على مداخل نيويورك، ليس -كما نحسَبُه- شيئاً من معدن الآليّة الأميركية "المُفَوْلَذة" تحت مطرقة الدولار.
تمثال الحرية ليس مادةً مصقولة اشتُقّت من عصب الرأسمالية الاحتكارية الذي صهرَتْه "أفران" الشهوة الجائعة دائماً إلى لحم الإنسان تهضُمُه بنهم، والظامئة دائماً إلى عرق الإنسان تعتصرُه من جباهِ الكادحين وسواعدِهم بضراوة، ليتحوّلَ اللحمُ والعَرَقُ "رِبحاً" يصنعُ سلاسلَ العبوديّاتِ لكل إنسان.
أيّها الحاضر هنا رغم أنف الجلاّدين!
أيّها الحاضر هنا تباركَ هذا العرس - ولا أقول المأتم - عرس الشهادة والفداء، عرس الكرامة والإباء، عرس الوطنية الحصينة المنيعة الهادية سواء الطريق.
أيّها الحاضر هنا...
ها إنّك ترى الشعب -شعبك الذي أحببْتَ وفديْت- كيف يبادلُك الوفاء بالوفاء، كيف يحوم على جراحك يقبس منها شعلةَ الحقد المقدّس على الطغاة أعداءِ الكرامة البشرية ، وشعلة اليقين الثابت بأنّ النصرَ لا محالة لقوى التقدّم والسلم والديمقراطية، ديمقراطية الشعوب ، لا "ديمقراطية" السياط والإرهاب والإجرام والفاشيّة.
تعودُ اليومَ، إلى أذهان العرب، ذكرى أفدح فاجعةٍ قوميةٍ أَنزلَها الاستعمارُ العالمي بأمّتنا في تاريخها الحديث. نعني بها ذكرى الخامس عشر من أيارعام 1948، يوم أُتيحَ للاستعمار والصهيونية العالمييْن أن ينفّذا خطط المؤامرة الكبرى التي رسماها معاً منذ الحرب الكونية الأولى، أو قبل ذلك، لاغتصاب البقعة المقدّسة العزيزة من أرضنا العربية، ولغرس "وتد جحا" في قلب بيتنا العربي الكبير!