أصبح من الصعب الكتابة عن أي صراع مسلح في أي مكان في العالم دون الحديث والتوسع في ادوار اقليمية ودولية بين امريكا وحلفاؤها ومعسكر الصين – روسيا – إيران في الشرق وطبعا" تركيا التي تسعى الى لعب دور أكبر كما توسيع مروحتها الاقتصادية على طريق نقل الغاز الأذري إلى اوروبا وهو ما سنتطرق اليه بالتفصيل في سياق هذا العرض. لذلك يطول الحديث والتفصيل في الادوار الكبرى والصراعات التي تتعدى حدود القارات. سألت العامل الروسي الذي يعرفني في متجر لأدوات رياضة الهوكي ما إذا كان يتابع أخبار الصراع المسلح في ناغورني كاراباخ وهو من منطقة شمالي القوقاز، فقال "إنّ ما يحصل بين أرمينيا وأذربيجان يشبه ما حصل ويحصل بين اسرائيل وغزة، صراع لن ينتهي".
لمحة تاريخية عن الصراع
خضع إقليم ناغورنو كاراباخ الذي تسكنه أغلبية أرمنية وأقلية أذريَّة لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم أُلحق بعد الثورة البلشفية بجمهورية أذربيجان متمتعًا بحكم ذاتي استمر حتّى سقوط الاتحاد السوفيتي السابق الذي خلف انهياره تاريخا" مشتركا" من المجازر والتطهير العرقي ونتج عنه عقود من الحقد والمناوشات الحدودية المتبادلة بسبب انعدام الثقة بين الارمينيين والاذريين ولم تتقدم الحلول السلمية الا قليلا". ومع مطالبات الاستقلال وإعلان الأرمن في الإقليم سلطة محلية مستقلّة عام 1991، ألغت أذربيجان الحكم الذاتي وخاضت حربًا ضد المجموعات الأرمنية الانفصالية، توسَّعت لتصبح حربًا مع أرمينيا التي قدمت لهم الدعم العسكري واللوجستي. نَجَمَ عن الحرب التي استمرت بين 1992-1994 خسارة أذربيجان للإقليم إضافة لِستِّ مناطق أخرى كانت تخضع لسيطرتها، فضلًا عن سقوط ٣٠ ألف قتيل وتهجير ما يقرب من مليون شخص من المناطق المجاورة غالبيتهم من الأذريين.
لم تنتهِ الحرب باتفاق سلام نهائي يحل المشكلة رغم اعتبار الأمم المتحدة أرمينيا دولة محتلة لأراض أذرية، كما أنشأت منظمة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE) مجموعة "مينسك" بعضوية كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا لمتابعة جهود حلِّ مشكلة الإقليم دون إنجازات تُذكَر. لذلك فقد تجددّ الصراع في الإقليم أكثر من مرة، آخرها كان في 2 نيسان 2016 حيث اعتبرت هذه المواجهات الأعنف بين أذربيجان وأرمينيا منذ 22 عاماً.
نشوب المعارك الحالية
في أواخر أيلول الماضي، شنّت القوات الاذربيجانية حملة عسكرية لاستعادة اقليم ناغورني كاراباخ الواقع ضمن الاراضي الاذرية وغالبية سكانه الساحقة من الارمن. تدرّجت الاشتباكات المسلحة لتصبح حربا" قوقازية (وللكلمة دلالاتها في حيثيات الجيو-سياسة الدولية سنعود إليها بالتفصيل فيما بعد) بين أرمينيا الداعمة لاستقلال ناغورني كاراباخ وأذربيجان التي تدعمها تركيا سياسياً وتسليحياً وقتالياً (أُثبت ارسال تركيا مقاتلين سوريين من فصائل تابعة لأنقرة من ادلب في شمال سوريا للقتال على جبهة كاراباخ الى جانب القوات الأذرية). وحتى الآن، سجلّت الحرب في أشدّ جولاتها عنفاً عدد كبير من الضحايا والمشردين بالإضافة الى تدمير غير مسبوق وثلاث هدنات فاشلة (اثنتان بدعوة من روسيا والاخيرة بتدخل أميركي) لم تصمد سوى ساعاتٍ قليلة.
ولاحقا" في أواخر تشرين الاوّل الماضي، سيطرت القوات الاذربيجانية على عدد من القرى والمرتفعات الاستراتيجية من القوات الارمنية في الاقليم بحسب ما فصلت ميدانياً مجلة فوربس. ويشير تحليل المجلة في 22 تشرين الاوّل الى أنّ أذربيجان احتلّت ما يقارب 10% من الاراضي في ناغورنو كاراباخ والتي كانت تسيطر عليها القوات الارمنية بارتفاع نسبة الاراضي 2.8% عن تحليل آخر نشر في 14 تشرين الاوّل.
ومع اشتداد المعارك الميدانية وتقدّم القوات الاذربيجانية في الاقليم، برز طلب رئيس الوزراء الارمني نيكول باشينيان من الكرملين أن يباشر بالمباحثات العاجلة لامكانية التدخل لمساعدة أرمينيا وجاء الرد الروسي حذراً على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الذي قال إنّ روسيا لا تتخلى عن حلفاؤها ولن تقف مكتوفة الايدي إذا وصلت الهجمات الى أرمينيا، ممّا يعني انها غير متحمسة للتدخل عسكرياً في كاراباخ. يبدو ان روسيا اتخذت قراراً بعدم الانجرار الى حرب في حديقتها الخلفية قد تلهيها وترضي الولايات المتحدة التي تتحين الفرص لإضعافها. في حين تصرّ أذربيجان على استعادة أراضي الاقليم كاملةً وبالقوّة وتتهم أرمينيا بجرّ أطراف خارجية للانخراط في المعركة والمقصود هنا بالطبع روسيا.
تركيا: مواجهة اضافية مفتوحة، مغامرات محسوبة؟
يؤثِّر الوضع الحالي لإقليم ناغورنو كاراباخ، كونه محل نزاع، على سياسات تركيا تجاه منطقتي البلقان والقوقاز، فهو يحدّ من فاعليتها في حوضي الأدرياتيكي وقزوين بشكل مباشر. ذلك أن حلَّ مشكلة الإقليم وإزالة الحاجز الأرميني سيمكِّنها من التواصل -عبر منطقة ناهتشيفان- مع أذربيجان والجمهوريات التركية في آسيا الوسطى بما يصنع منها قوة إقليمية كبرى.
كما أنّ العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين تركيا وأذربيجان تلعب دوراً في القرار التركي بالانخراط العميق في الصراع، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما عام 2015 حدود 3.5 مليارات دولار، فيما تستثمر 2665 شركة تركية في أذربيجان، فضلًا عن تقديم تركيا للأخيرة ما يزيد عن 350 مليون دولار منذ 2004 كمساعدات مباشرة للمشاريع التنموية. وتجمع البلدين عدّة أطر اقتصادية أهمها اللجنة الاقتصادية المشتركة والمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي.
تريد تركيا حصة أكبر من امتيازات نقل الغاز عبر أراضيها الى الخارج ورفع النمو الاقتصادي المحلي من 7 مليارات دولار الى 33 مليار دولار وهي تسعى لاستغلال موقعها الجغرافي المهم للضغط على روسيا تحديداً في هذا المجال. وهو ما يفسر مطالبات الرئيس الاذري الهام علييف - حليف تركيا - بإشراكها في أي مفاوضات لحلّ أزمة كاراباخ بحجّة أنّ مجموعة "مينسك" لم تحل الازمة منذ ثلاثين عاماً.
في الحقيقة، أمن الطاقة التركي مرتبط بأذربيجان والتي تُعد إحدى أهم الدول المصدِّرة للغاز الطبيعي، وتعوِّل عليها في السعي نحو تقليل نسبة اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني. في الأرقام، تستورد أنقرة 55% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا و16% من إيران و13% من أذربيجان. كما تؤمِّن مشاريع مدِّ أنابيب الغاز الأذري حاجيات تركيا من الغاز الطبيعي فضلًا عن كونها ممراً لغاز بحر قزوين إلى البحر الاسود ومنه الى أوروبا عبر ايطاليا مثل مشروعي باكو-تفليس-جيهان، و"تاناب" (مشروع غاز عبر الأناضول). كما يلعب موقع أذربيجان الاستراتيجي في مشروع طريق الحرير الصيني وبذلك يكون الدور الاساسي لمن يمتلك العقدة وحلّها في هذا الطريق. غير أنّه من السذاجة والتسطيح القول بأن تركيا سوف تستغني عن روسيا عبر هذا التدخل ومضايقتها في القوقاز اذ أنّ أذربيجان لا تستطيع أن تكفي سوى 11 بالمائة من حاجة تركيا، لذا لا بديل عن الغاز الروسي والايراني. ومن هنا نفهم التدخل التركي بأنه لا يعدو كونه تحسين شروطها في مشروع نقل الغاز من إيران وروسيا.
على المقلب الآخر، خلقت تركيا اشتباكاً مع منتدى غاز شرق المتوسط الذي تحوّل الى منظمة اقليمية بقيادة العدو الاسرائيلي عبر مناوراتها البحرية الاخيرة في المتوسط اما شواطىء اليونان العضو في هذا المنتدى والذي عبره ينقل غاز فلسطين المحتلة وقبرص التركية الى اوروبا عبر اليونان وهو ما لاتريده تركيا لأن اي خط عبور الى اوروبا تسعى الى ان يكون برعايتها أو على الاقلّ ان تلعب دوراً محورياً فيه. ومن ناحية أخرى، أنشئ هذا المنتدى لمحاصرة روسيا وإيران الاّ أنّه الى الآن غير منتج بسبب اعلان المانيا استمرار اعتماها على الغاز الروسي وكون طريق هذا السيل مكلفة جداً، ومرتبطة بالصراع العربي الاسرائيلي من ناحية سوريا ولبنان ومدى نجاح أميركا واسرائيل في عملية السعي الى تطبيع العلاقات بين سوريا ولبنان من جهة والعدوّ الاسرائيلي من جهة أخرى.
إيران: قلق وتعاطي متعقل بانتظار تكشف الواقع الاميركي الجديد
في إيران، تعلو المصالح الجيوسياسية والمرتبطة استراتيجياً بسياستها الخارجية على صوت الاقتصاد. ففي الوقت الذي تسعي فيه الى تعزيز شراكتها الاقتصادية في أنابيب الغاز مع روسيا الى أوروبا عبر أذربيجان وجورجيا وتركيا وتعزيز عمقها في القوقاز الاّ انها لن ترفع صوت الاستقرار الداخلي المتعلق بالقومية الاذرية في حدودها الشمالية كثيراً. الموقف الايراني شديد التعلق بالموقف الروسي لذلك فهو يفضّل الانتظار ريثما تتضّح معالم الازمة ومآلها ويبقى قنوات التواصل مفتوحة مع الدولة الروسية. وكانت إيران قد دعت خلال اشتداد وتيرة الصراع الى احترام قوانين الأمم المتحدة التي تعتبر الإقليم جزءاً من الأراضي الأذربيجانية الا انها توقفت عند هذا الحد حيث أنّها تعي أنّ روسيا لن تسمح بتمدد تركيا عبر أذربيجان الى حديقتها الخلفية. وأرسلت لاحقاً مساعد وزير الخارجية عباس عرقجي في جولة شملت أذربيجان وأرمينيا وموسكو وتركيا للدعوة الى التهدئة وتوقف القتال بشكل يسمح بالجلوس الى طاولة المفاوضات وحلّ الازمة بالحوار. اما ميدانياً، فنشرت إيران على طول حدودها وخصوصاً بمحاذاة الاراضي التي تقطنها أكثرية قومية أذرية، قوات عسكرية وقامت بمناورات عديدة جاءت ترجمتها السياسية على لسان وزير خارجينها محمد جواد ظريف الذي أعلن عن قلق الجمهورية الايرانية من وجود اسرائيلي يحيط بالحدود الايرانية وهددّ بالتعامل معه بحزم ودون هوادة.
الابعاد الاقتصادية للصراع وتوقيته
يتمتع الاقليم بموقع استراتيجي يعد في هذه الايام عالمياً حيث يربط بحر قزوين بالبحر الاسود وبالتالي فهو ممر الزامي وضروري لانابيب الغاز الذي يتزايد الطلب عليه كنتيجة للاتجاه الذي تعتمده دول العالم حالياً، بتنويع مصادر الطاقة بحيث تتحول للاعتماد على الغاز الملائم للمناخ ويتمتع بكلفة استخراج أقلّ من البترول، كما أنّه مفيد للصناعات وخصوصاً حروب الجيل الخامس من الثورة الرقمية التي تشهد تزايداً وسرعة مطردة في تطوّرها. يحتضن الشرق أكبر مخازن طبيعية وأكبر احتياطي غاز يوّفر لمعظم دول العالم مصدر للطاقة. ويعد موقع ناغورنو كاراباخ على الخريطة القوقازية عقدة وحلاً في صراع نقل الغاز الروسي والاذربيجاني والايراني الى أكبر مستهلكيه جنوباً وهم جورجيا وأرمينيا وتركيا التي كما اسلفنا تلعب لعبة الجديدة في القوقاز من أجل تحسين شروطها وتعزيز موقعها في نقل الطاقة الى اوروبا وبالتالي تقليل اعتمادها على الغاز الروسي عبر ازالة عائق الاقليم أمام تدفق نفط اذربيجان مباشرة الى أراضيها.
في خلفيات الصراع ما هو أبعد. يسعى مثيرو هذا الصراع الى اطباق السيطرة واقفال الطريق أمام مشروع الحرير الصيني من ناحية الشمال ومن جهة اخرى الى اطباق الخناق على إيران وفصل واقع جيو-سياسي استراتيجي موجود بين إيران وروسيا. أمّا من ناحية روسيا، فالهدف هو استنزافها واحاطتها ببؤر توتر أمنيّ بما يؤثر على امتداد خطوط الغاز المستقبلية الى أوروبا.
يتشكّل حالياً خط نقل أنابيب الغاز برياً من روسيا الى إيران والعراق وسوريا ولبنان وصولاً الى أوروبا عبر المتوسط. وتلعب اذربيجان دوراً محورياً في هذا الخطّ البري بسبب موقعها وهنا تركيا تريد أن تلعب دوراً اساسياً وعامل رئيسي مقرّر في عملية النقل هذه من خلال حليفتها أذربيجان.
الموقف الاميركي
انّ موقف الولايات المتحدة الاميركية من هذا الصراع يجب أن يُرى من زاوية اجهاد روسيا والهائها عن دورها من اوكرانيا الى بيلاروسيا الى قرغيزستان الى مشروع الدرع الصاروخية في بولندا والآن القوقاز. إذا ابتعدنا قليلاً عن واقع أنّ الولايات المتحدة تساهم بطريقة او بأخرى في خلق حروب وصراعات تلائم مصالحها في اضعاف كل الدول والكيانات التي لا تدور في فضائها، فيكون لها مصلحة واضحة جداً في هذا الصراع وتأجيجه خاصة إذا نظرنا الى محاولاتها المستمرّة في تأجيل التحول للاعتماد على الغاز بدل النفط والذي موجود بمعظمه في الشرق كما أسلفنا لأنّ قوتها الاقتصادية الهائلة في أحد ركائزها الاساسية قوّة عملتها المرتبطة بشكل أساسي بالنفط (البترودولار). إنّ من شأن هذا الامر أن يخلق الاعتماد الكبير المستقبلي على غاز الشرق عملة جديدة قد تضرب الاحادية في القوة التي تتمتع بها عملتها وتهوي باقتصادها في مراحل لاحقة. ويفسّر هذا الامر ضغطها في السابق على الاتحاد الاوروبي للضغط على بلغاريا التي كانت تتلقى مشروع السيل الجنوبي الذي رسمته روسيا بالشراكة مع تركيا لتقليل الاعتماد على خط اوكرانيا الذي ينقل الغاز الروسي الى أوروبا بعد التدخل الاميركي الواضح في اوكرانيا والذي أدّى الى توتر العلاقات بينها وبين روسيا. وبالعودة الى بلغاريا التي الغت بضغط من بروكسل مشاركتها في خط السيل الجنوبي وعملياً أوقفته، ممّا استدعى روسيا لأن تستبدله بالسيل التركي.
خاتمة
مع مرور الوقت، تتكشّف عقدٌ إضافية تحول دون حلٍّ نهائي لجولة الاقتتال المندلعة في جنوب القوقاز بين أرمينيا وآذربيجان. كثرة اللاعبين باتت تفسد للودّ قضيّة؛ من جهة، تسعى أنقرة وباريس إلى تصفية حساباتهما على أرض قره باغ، بينما يعتقد إردوغان أنه يواجه حصاراً مزدوجاً، تشارك طهران في إطباقه. في هذا الوقت، تدخل واشنطن الأزمة لسحب أوراق القوّة من يد موسكو، تارةً بإشعار يريفان أنها لم تتخلّ عنها، وتارةً أخرى بوضع ثقلها لدعم باكو، بينما يُظهر الميدان أنّ اليد الطولى لا تزال لهذه الأخيرة، والتي تضع استعادة أراضيها المحتلّة شرطاً أوّل لوقف الحرب التي تزداد اشتدادا" في ظل اصرار أذربيجان على استعادة اراضي الاقليم بالسلاح متكئة على الرئيس التركي ودعمه ومرتزقته من إدلب والدعم العسكري الاسرائيلي الذي يغتبط بالقلاقل على حدود إيران من خلفها روسيا. اذاً، انه صراع من يصل الى أوروبا اولاً ...
ملاحظة: هذه الاحداث والتطورات كتبت لغاية يوم السبت في ٧ تشرين الثاني، أمّا ما طرأ من بعدها، ستواكبه الكاتبة ضمن مقال آخر سيصدر الكترونياً قريباً.