أميركا والتربح من الحرب الأوكرانية

كما في الحروب التي وقعت في منطقتنا العربية خلال العقد الأخير، والحروب الأخرى في العالم، والآن الحرب الروسية الأوكرانية، كانت الولايات المتحدة الأميركية في منأى عن تبعات هذه الحروب، فلم تتأثر بها أو تتضرر مباشرة بالقدر الذي تأثرت به دول المحيط العربي والجوار في أوروبا وآسيا.

لكن الأمر تعدّى عدم تأثرها ليصل إلى مرحلة تربُّحها من هذه الحروب. إذ بعد عشرة أشهر من هذه الحرب، وما أدت إليه من استنزاف لروسيا، وإلى ركود واضطرابات اقتصادية ضربت أوروبا، بدأت أصوات المسؤولين الأوروبيين تخرج احتجاجاً على السياسيات التي اتبعتها الولايات المتحدة، وأثّرت على الدول الأوروبية، وذلك حين اتهم مسؤولون أوروبيون واشنطن بأنها جنث "ثروة" من الحرب، بينما عانت منها الدول الأوروبية.
كلمة السر في تراكم هذه الثروة هي السلاح والغاز اللذيْنِ شهدا طفرةً في مبيعاتهما، إضافة إلى الزيادة في أسعار الغاز المُورّد إلى الدول الأوروبية، مقارنةً بذلك المُورّد إلى دول أخرى، ما أغضب الدول الأوروبية. إلا أن الأمر قد لا يتوقف عند الغضب وحده، بل قد يصل إلى مرحلة الحرب التجارية بين ضفتي الأطلسي، مع بروز ملامح سياسات اقتصادية جديدة ربما تتبعها الولايات المتحدة، خصوصاً منها انتهاجها سياسة حمائية، جاءت في إطار ما عرف بـ "قانون خفض التضخم" الذي وقعه الرئيس الأميركي، وقررت الحكومة الأميركية بموجبه تقديم إعانات كبيرة للصناعات الطرفية المرتبطة بصناعة السيارات الكهربائية، ما يعزز قدرتها التنافسية في وجه المنتج الأوروبي. ويُعدُّ هذا بحد ذاته مصدر وجعٍ جديدٍ للرأس تجلبه إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، للأوروبيين بعدما أُجبِروا على شراء الغاز الأميركي بأسعار أعلى من أسعار السوق العالمي. وإذا ما منحت واشنطن إعانات لصناعات أخرى، فإنها ستؤثر سلباً على الصناعة الأوروبية وقد تدمرها، بحسب ما قال مسؤولون غربيون. كما أنها ستؤدي إلى "تفتيت الغرب" كما صرح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. لذلك قال مسؤولون أوروبيون إن الكرملين يراقب كيف تساهم هذه السياسة في تسميم الأجواء بين الحلفاء في الغرب.
وفي هذا السياق، فإن الاتفاق بين الدول الأوروبية على تحديد سقف لسعر النفط الروسي المنقول بحراً عند 60 دولاراً، من أجل التأثير على روسيا والحد من قدرتها على تمويل حربها مع أوكرانيا، أدى توتير الأجواء بين الطرفين. لذلك سارع رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الدوما الروسي إلى القول إن قرار تحديد سقف للسعر سيسبب أزمة طاقة للاتحاد الأوروبي. وأضاف إن القرار يَصبُّ في مصلحة واشنطن لأنها ستزداد ثراءً بفضله. وهو تماماً ما قاله الأوروبيون، والذي لم يدفع واشنطن إلى التراجع، إضافة إلى أنها لم تستجب لدعوة مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، الذي طلب منها "التجاوب مع المخاوف الأوروبية". غير أن أميركا سمعت طلبه ولم تتجاوب، فما صدر عنها كان تفسيراً وتبريراً جاء على لسان متحدثٍ باسم مجلس الأمن القومي التابع للرئاسة الأميركية، والذي قال إن ارتفاع الأسعار ناتج عن "غزو أوكرانيا" وحرب الطاقة في أوروبا، مضيفاً إن أميركا زادت من صادرتها من الغاز المسال لمساعدة أوروبا على تنويع مصادرها بعيداً عن روسيا.
ومن المعروف أن أميركا أصبحت، بعد الحرب في أوكرانيا، ثاني مورِّدٍ للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا بعد النرويج، وتُوِّجت أكبر مصدرٍ له في العالم، بعد العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا بسبب حربها مع أوكرانيا التي اندلعت في 24 شباط/ فبراير الماضي. ويقول مسؤولون أوروبيون إن ما يدفعه الأوروبيون لقاء الوقود أعلى بأربعة أضعاف تكاليفه في أميركا. فواشنطن التي زادت شحنات الغاز المسال إلى أوروبا بدءاً من فبراير/ شباط الماضي، زادت أيضاً من سعر هذه المادة، واستغلت الأزمة التي أحدثها توقف شحنات الطاقة من روسيا لتفرض السعر الذي يناسبها، من دون أي اعتبار لعلاقة التحالف العسكري والسياسي والاقتصادي التي تجمعها مع أوروبا. حتى أن تجار غاز أميركيين أخلّوا بعقود توريد المنتج إلى بعض الدول الآسيوية، وفضلوا أن يدفعوا لهم غرامات تقدر بملايين الدولارات بسبب ذلك، مقابل إعادة توجيه الشحنات إلى أوروبا طمعاً بسعره المرتفع هناك. وقالت وكالة رويترز إن هنالك كمية ضخمة من الغاز حولتها أميركا إلى أوروبا بلغت قيمتها 17 مليار دولار، في حين كانت ستباع في آسيا بحوالي 13 مليار.
زيادةً على الأرباح الناتجة عن بيعها الغاز إلى أوروبا بأسعار مضاعفة، تجني أميركا أرباحاً من بيع الأسلحة لأوكرانيا والدول الأوروبية. فإضافة إلى جني المليارات، ستستفيد شركات السلاح الأميركية من تفريغ مخزونها من الأسلحة القديمة والتعاقد مع الحكومة الأميركية لصناعة أسلحة جديدة وحديثة. وكان لافتاً لجوء ألمانيا إلى شراء مقاتلات أميركية من طراز (أف 35)، لمواجهة التهديدات الروسية، خصوصاً بفضل قدرتها على التخفي وعلى تنفيذ مهمات قصف نووي. وسيؤثر هذا القرار بحد ذاته، سلباً على الصناعة العسكرية الألمانية، وعلى مشروع المقاتلة الأوروبية "يورو فايتر تايفون"، وربما يدفع دول أوروبية أخرى لتحذو حذو ألمانيا في هذا التوجه، وهو ما يصبّ في النهاية في مصلحة أميركا.
علاوةً على الفوائد المادية، استفادت أميركا على الصعيد الاستراتيجي، خصوصاً عندما أظهرت عدم تسامحها مع التهديدات الروسية لمصالحها، وبذلت جهدها لقطع الطريق على طموحات روسيا. وبفضل قدرتها على حسم الموقف تجاه روسيا، وتمكين كييف من الوقوف بوجهها عسكرياً، فضلاً عن حشد الحلفاء للوقوف خلف الموقف الأميركي، استطاعت توجيه رسائل إلى دول أخرى، خصوصاً الصين إذا ما فكرت بعمل عسكري في تايوان. وفي هذا التوجه تريد واشنطن التأكيد على استمرارها في قيادة "العالم الحر" لتعزيز النظام الدولي الذي حددت هي ملامحه الأساسية.
في النهاية يمكن القول إن السياسة التي اتبعتها واشنطن بعد الحرب الروسية الاوكرانية تُعدُّ سلاحاً ذو حدين؛ فهي من جهة زادت من قوة أميركا ومن ثروتها، ومن جهة ثانية جعلت الحلفاء يشككون في قدسية الحلف التي يجمعهم معها، بعدما انعكسَ ازدياد قوة أميركا ضعفاً في بلدانهم. من هنا قد يؤدي الثمن الذي سددته أوروبا، وظهور تغيُّر في مزاج الشارع تجاه واشنطن، إلى تساؤل المسؤولين الأوروبيين الجدّي حول جدوى التحالف معها.

  • العدد رقم: 412
`


مالك ونوس