لكن لم يُنفّذ أي بند أو نقطة تفتح ثغرة إصلاحية في جدار النظام. وما جرى هو تنفيذ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، التي لا تُشكّل حلاً، إذ جرى التواطؤ بين رعاة الطائف الإقليميين والدوليين، بتكليف عبد الحليم خدام ممثلاً للسلطة السورية للإشراف على تنفيذ الاتفاق وإعادة بناء الدولة في لبنان، وبين متزعمي الطوائف، ما أدى إلى إعادة تركيب النظام وسلطته على الأسس الطائفية اللاوطنية نفسها، بينما أغفلت السلطة كل ما يلامس الإصلاح.
لقد عانت الطبقات الشعبية الأمرّين جرّاء الحرب الأهلية التي سقط فيها حوالي 150 ألف شهيد وضحية، عدا الدمار السكني والاقتصادي، والتي دامت أكثر من 15 سنة. وهذا ما جعل شعبنا بأمسّ الحاجة إلى وقف هذه الحرب على أمل العودة إلى الحياة الطبيعية، لكن الذي شعر به الناس بعد سنوات من مؤتمر الطائف هو الخيبة والفشل، إذ استمرت السياسات نفسها، وجرت إعادة إنتاج طبقة سلطوية تمثّل مصالح تحالف زعامات ميليشياوية سلطوية مع ميليشيات المصارف ومافيات الاحتكار. فكان نهب أموال الدولة وودائع الناس، وتفشّي الفساد، وتدهور معيشة الشعب الاجتماعية، واستيلاد الانقسامات والخلافات في السلطة وفي الحياة السياسية العامة، وتحلل الدولة وصولاً إلى الانهيار في مختلف المجالات.
وقد كانت انتفاضة 17 تشرين المليونية ردّاً شعبياً شاملاً من جميع الطوائف والمناطق رفضاً للسلطة وسياساتها، ومطالبة بالتغيير. وقد جرى ذلك لأن تركيب السلطة بعد الطائف أيضاً تمّ بعيداً عن مصالح الشعب والوطن، وبما يلائم مصالح الزعامات الخاصة وقوى الخارج. وكان استبعاد القوى العلمانية، وفي مقدّمهم الحزب الشيوعي اللبناني، رغم دوره الكبير في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وتحرير ثلثي الأراضي اللبنانية المحتلة، وإفشاله مشروع تقسيم لبنان، استبعاداً لما يطرحه من حلول حقيقية وطنياً واجتماعياً، ولمصالحة وطنية ليست بين أشخاص ومصالح زعامات، بل مع لبنان الوطن والشعب والدولة.
وكانت مبادرة هذا الحزب في إقامة الاحتفال الوطني الشعبي الكبير في فوار أنطلياس في 9 كانون الثاني عام 1990 للشروع في المصالحة المذكورة، واستكمالها ببلورة الحاجات الأساسية الوطنية والاجتماعية والديمقراطية الضرورية لشعبنا والعمل على تلبيتها، لتكون هذه المصالحة الركيزة الداخلية لاتفاق الطائف، ولتجنّب تكرار الحروب الأهلية وأسبابها في البنية السياسية.
وإذا كان الوضع في لبنان لا يزال في حالة تخبّط وانقسامات، فإن دور الخارج، الذي شجّع على حرب دامت 15 سنة لتمرير اتفاق كامب ديفيد بضجيجها، هو اليوم أكثر تدخلاً وعدائية وشراسة، بغرض تقسيم البلدان العربية، ومنها لبنان، لإقامة شرق أوسط جديد ملائم لهيمنة المخطط العدائي الصهيو-أميركي وفرض التطبيع مع إسرائيل، من دون نيل الشعب الفلسطيني حتى الحد الأدنى من حقوقه في العودة والدولة الوطنية المستقلة.
وإذا كان تردّي الوضع الداخلي المذكور والتسبّب بالحرب الأهلية هو مسؤولية الطبقة السلطوية وسياساتها وممارساتها وتمسّكها بنظامها الطائفي التحاصصي، فإن قضية الإصلاح والتغيير الضروريين اليوم تستدعي من المسؤولين الجدد على رأس الدولة نهجاً وطنياً واجتماعياً إصلاحياً جريئاً، ومن الناس تحرّراً من عباءات زعامات الطوائف إلى رحاب الوطن، كي لا تتكرّر الأزمات والعجز والانقسامات، خصوصاً في ظروف تزداد فيها خطورة الدور الصهيوني وعدوانيته المدعومة أميركياً على لبنان وسوريا وفلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني.
فمسؤولية المسؤولين هي في القيام بكل ما يلبّي حاجات لبنان، الشعب والوطن، وفي إقامة الدولة الديمقراطية الحديثة، وكل ما يعيد للبنانيين ودائعهم وأموالهم المنهوبة، ويوفّر لهم الضمانات الصحية والاجتماعية، ويوقف هجرة الشباب. فبناء الدولة الوطنية يكون بإقامتها على أسس المواطنيّة التي توحّد الشعب والوطن داخلياً، فالوحدة الداخلية هي القوّة التي تحمي الوطن وتحرّر أرضه من الاحتلال، وتعمل على مكافحة الفساد والنمط المافياوي المتحكّم بمعظم حاجات اللبنانيين. فمساحيق التجميل والمسكّنات لم تعد كافية، وهي تزيد المسافة المتباعدة بين السلطة والشعب، وتُبقي على أسباب حرب 13 نيسان في بنية النظام والسلطة، واستدراج تكرارها.
هل يتعظ اللبنانيون من دروس الحرب الأهلية؟
بعد خمسين سنة على انفجار الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، لا يزال بلدنا وشعبنا يعانيان الكثير من جروحها وآلامها. ولا تزال أسبابها كامنة في طبيعة النظام السياسي نفسه. ومع أن مؤتمر الطائف، الذي جرى برعاية دولية وإقليمية واقتصر لبنانياً على ممثلي الطوائف مع استبعاد القوى العلمانية، لم يستطع تجاهل الأسباب الداخلية للحرب الأهلية، فرأى وجوب تلمّس بعض الإصلاحات التي تفتح طريقاً للخروج من النظام الطائفي، أبرزها تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية، وانتخاب البرلمان القادم (1996) خارج القيد الطائفي، وإيجاد قانون انتخابي يضمن تمثيل جميع الفئات الشعبية، واستحداث مجلس شيوخ لتمثيل الطوائف، واعتماد اللامركزية الموسعة، إلخ...
النداء 2025. حقوق المنادى فقط محفوظة.