الذي، ينبوعُ الأمل والربيع الدائمين، هو المُستهدف، ليس بوجوده اللاإرادي، بل بجعله وحش ذاته. الحرب لقتل العقيدة الإنسانية، وهدم شجرتها عبر خلق عوالم لا متوازنة، وإن تكن متوازية ومتداخلة؛ فتلك حبكة الصانع، حتماً، يجب علينا استجلاء الكثير من الصور والروايات والقصص، وهي بشخوصها ترسي معايير متناقضة لرموز الحدث بذاته، حتّى للقاتل روايته...
والخروج من الموت، حفرٌ في ثيمات الأهوال والإصطراع، حضورٌ للمنافي الوطنية بامتياز الفظائع. المنافي، وهي جمع بؤرٍ طائفية ومذهبية، ارتكاسٌ مؤلمٌ للإنسانيةِ - الضحية، والضحايا متشابهون أينما كان، حيث تحضر صور الأم والأب والأبناء والبنات، الصديق والقريب والجار، الرفيق المناضل، والترحال في منافي الداخل والخارج. حيث تكون العودة إلى المكان بعد عقود، مجرّد هرسٍ للماضي، ولا يصعُب أن تُنقِذَنا أحلامُ الضوء لحفظ الذكريات، لربّما يصير المكان أجمل، والمقتلون أحياء... نكبر معاً في لوحة الحياة، وبقع الدّم تتحوّل نجومَ اللحظةِ اللا منقطعة، وما يوضّبُ في الذاكرة، يكون استثناءً لرواياتٍ تتواصل.
نخْبٌ... لِمَ لا، نخبُ الأخوّة البشرية، لقد أخبرني حدْسي، وهجسَ في أعماق روحي، بأنّ تلك الرّغبة الحيوانية، لسوف تتملّك حواضر البشر إلى ما لا نهاية، ولسوف تُقامُ الحفلات الغنائية المختلفة والراقصة، لسوف تُقادُ الساحات والميادين إلى كرنفالات المقاصل، لسوف نركض هائمين بلا رؤوس، لأنّهُ الضجرُ الوجوديّ، نلوك أثوابَنا البيضاء، لننعمَ بلحظةِ وردةٍ حمراء من خمرة دمنا، ولأنّ نجوم الرأس مثل بائع المرايا، نأخذ نفساً عميقاً من سيجارٍ أُممي، ولأنّها أمي منذ ما قبل الوجود والحياة، أرجوها صفحاً، وبي سماواتٌ مقبلة، وبعضي يُشوّى بألسنةِ المارقين والنّار، والليل إلى سبيل الهاجعين، ولستُ منهم؛ فآثرتُ القمرَ، وأدرتُ عقاربَ الشمس حتّى انكسارٍ آخر للزّمن.
كما لو أرادتني الحياةُ بألفِ ألفِ لونٍ ولون، وصحوتُ على كائناتِ الوجود تسري في حياتي في دمي؛ فأطلقتُ لها نذوري، وأرسلتُ لعوالمَ أجهلُها روحي، تلك، تتجلّاني، وكم أُكابِدُ رُسُلي، سُبلي، إنتباهتي وأشجاني، وأنا أجهلُ بأنّي إنسان، أخضع لجاذبية الأرض، ولستُ أفترضُ صعودي إلى هناك، يعرفونني كما أنا... كيف كنّا معاً، وهذا العمر الوجوديّ مجرّد لحظةٍ، أو نزهةٍ لقلوبٍ لِتَعارف، ولمّا أزل أقودُ ليلي بمقبض النهار، وأغرس في العتمةِ شموعي، وأمامي أماني والكثير من الظلال المتساقطة، لربّما هي الفرصة الأخيرة، ربّما لأجل مقبلين من لَدُني خضعتُ لجملةٍ ناقصة، لمرادافاتٍ غير ودودة، لعلقمٍ يُفرِدُ المرورَ لناهبين حاكمين، وبعض الحنين جنسٌ منقرض، والواهبُ أعضاءَهُ، يعود بنفوسٍ تبعث على الحبور والقنوط، ربّما لأنها الحياة...
وأحلم، أوَ لسنا عيال الله، الذي خلقنا من طينٍ، ونفخ فيه من روحه؛ فكنّا في أحسن تقويم... نحن، الذين آلهة ذواتنا، الذي أحبّنا... فخلَقنا بحب، وقد قتلنا باسمه... لأجله نعتقد، وقد سئمنا من شياطين الجنّ والإنس، من شياطين الأساطير والغيب، ماذا لو يصدر عفوٌ عام...!!
***
... كيف لا تغيبُ، لا تموت الإبتسامة على وجوهنا المُتعَبة؟ وقد خطْنا من نسيج الملامح ملاءاتٍ مختلفةَ الأحجام، وحيث ألقى قاتلي، يهزُّ برأسهِ، أخالُها تحية العادات، الذي أضحى نائباً في مجلس الشعب أو الأمة، وعند بقع الدِّماء اليابسة، ظلال الناخبين الناحبين.
ذات إصابةٍ في العقل، وجدتُني والموتَ، نتبادلُ أطراف الحديث والجثث والرّغبات، والجدران العمياء، تُشاركنا فحيحَ الثقوب والعبرات، خارج هذه العتمة، يُحكى عن إنهيار سقف السماء، أعلم عن كثيرين قضوا تحت الأنقاض، عن ساخرين شامتين، عن عُراةٍ حُفاةٍ بلا أرضٍ وحياة.
كنتُ، لا ألوذُ بالفرار، والقنابل المضيئة عين الساهرين لأجل أيِّ صوتٍ وحركة، أقبض علينا من زاويةٍ إلى أخرى، هي جلسة شاي، نحاول أن نفلِتَ بها ما بين الرصاص والقذائف المُتبادلة. أحياناً، تتبدّلُ المواهب، كثيرون كانوا يجمعون أعقاب السجائر، وفي العتمة تهوي أعقاب البنادق على الرؤوس، كما لو جاهزة لإمتاع الغرائز.
ما بعد الحرب، تقطّعت أوصالُ العبادِ والبلاد، وأصبح مصدر "أبوات" إسماً علماً في معظم الدوائر الرسمية، بعد قدومهم على طوف الطائف، ولا منجى من الرزّ والزغاريد والهتاف والتصفيق، كان الوقت إبّان فصل الشتاء، لا وردَ يغلبُ على الخبز والماء.
ولي، منذ أربعٍ وأربعين... تلك المُلقّبة بأُمٍ، كيف تسعى لتنجو؟ كأنّي بها تقول... لا تجزعوا، لا تُحنوا هاماتكم، لا تخضعوا. هاربون في حبكة الدائرة، حيث النظام الطائفي بلغ مبلغ الرسالات السماوية، والأنبياء الغابرون، يواصلون سرديتهم في مجلس الأمة الجديد.
حروبُنا الوطنية، أحالتنا باكراً على التقاعد، قالوا... نرفعكم إلى السماء، قلنا، نحبُّ حياتنا. تلك الحياة نتلامحها عبر غيومٍ شاردة، والمُخرج المدعوم كالذئب الضاري، يبحث عن كومبارس لفيلمه الطويل. والخطوط كالحظوظ تتبسّمُ لمختارين وراء الشمس.
المنافي الوطنية
... فجأةً، وقد وجدتُني مجرّدَ "صبيٍّ تائهٍ" بلا مكانٍ، وقد توقّفت عقاربُ زمانِنا على توقيت الثالث عشر من نيسان لعام خمسٍ وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد، والخوض في أحداث تلك المرحلة، تماثلُ تجربةٍ قهريةٍ بكلِّ مفردات القتل. وشخصيات الرواية الحياتية، واقعية، حقيقية، يغيبون في الحياة، ويحضرون كرواة، وبشيءٍ من الدّهشةِ والسِحر، يختلط الواقع بالخيالي، لتجريف قوّة الطغيان، وبأنّ الحروب الطاحنة، هي مركزية السرد، أما الإنسان،
النداء 2024. حقوق المنادى فقط محفوظة.