العالم اليوم على مفترق طرق. ما كان يبدو ضرباً من الجنون منذ عقدين، صار خطاباً منتشراً على كل لسان اليوم. الرأسمالية في أزمة بنيوية، في دول المركز كما في دول الأطراف. النظام العالمي "الجديد" الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، صار عالماً قديماً ينتظر اليوم مراسم طيّ صفحته. الرأسمالية التي اعتُبِرت "نهاية التاريخ" تعيش اليوم خريفَها، واليد الخفية التي اعتبرها "آدم سميث" ناظمةً لتوازنات الاقتصاد والمجتمع في ظل الصراع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، اتّضح أكثر للناس حول العالم بأنّها يدُ الاستغلال الطبقي الظاهرة، التي تراكم الثروة لدى فئةٍ محدّدة من المجتمع على حساب باقي الطبقات الاجتماعية.
بلغت عملية الاستشارات النيابية، التي كانت مقرّرة الاثنين الماضي، والتي تأجّلت مجدداً لفترة أسبوع، مرحلة خطيرة، ليس بمفاعيلها أو بسبب عدم إجرائها، بل لكونها دخلت، وبقوّة، في مهبّ المحاصّة الطائفية وبزار المزايدات المذهبية. وفي تطور مريب توقيتاً وشكلاً، خرجت من دار الفتوى تسمية مرشح لتأليف الحكومة بعينه، ضاربة بذلك عرض الحائط، بالدستور والطائف وبكل الأعراف، حتى ولو كانت شكلية، وواضعة، في الوقت نفسه، الحرم المذهبي على أي ترشيح آخر.
لقد قالها الطلاب "يا بيروت شدي الحيل تنسقِّط رأس المال".
تصدّع جدار البنية الطائفية في السابع عشر من تشرين الأول. كانت تلك الليلة نقطة تحول أولى لا رجعة عنها في تاريخ لبنان المعاصر. كانت شرارة تحوّل في الحسّ الطبقي المدفون تحت رمضاء الطائفية السياسية. وأمّا نقطة التحول الثانية كانت بين 20 و22 من الشهر عينه بين خطاب الأمين العام لحزب الله واستقالة الحريري من جهة والاعتداء الذي قاده المنطق الإقصائي الهمجي لشبيحة الأحزاب الطائفية من جهة أخرى.
ها قد مضى شهر ونصف على بدء الانتفاضة الشعبية الرائعة، وما زال شعبنا مستمرّاً في الشارع والساحات في جميع مناطق لبنان. ومع أنّ صرخاته المدوّية المعبّرة عن وجعه تردّدها الساحات والشوارع، فإنّها لم تدخل بعد كما يبدو، في اسماع وعقول زعامات الطبقة السلطوية. فهم لم يعتادوا الإصغاء إلى أصوات الناس خصوصاً الكادحين والفقراء ومجمل المظلومين. يزعجهم سماع صوت الرأي الحرّ الحقيقي، والفكر النيّر، والمواقف الوطنية الجريئة.
ربما من المبكر اليوم الحديث عن ثقافة "ثورة 17 أكتوبر"، لكن من الضروري إنصافها حيث ثابر الكثيرون على تحميلها الكثير من الإسقاطات الأيديولوجية والأخلاقية والدينية، متناولة أشكال ومظاهر تعبير هذا الجيل المنتفض بقوة، الجارف لكل الثوابت الإجتماعية والسياسية وفي مجال المعتقدات والأفكار.
دخلت "انتفاضة 17 أكتوبر" أسبوعها السادس على التوالي، وسط إصرار من المنتفضين بكافة الساحات وعلى امتداد مساحة الوطن على توحيد مطالبهم ومواصلة تحركاتهم حتى تشكيل حكومة وطنية انتقالية، وتطبيق المادة الـ 22 من الدستور وإقرار قانون انتخابات نسبي وخارج القيد الطائفي، ثم تحقيق استقلالية القضاء واسترجاع المال العام المنهوب والأملاك العامة.