انسداد الأفق التاريخي أمام النظام
تروّج السلطة اللبنانية في ظلّ التخبّط الذي يصيب مكوّناتها إلى فكرة رجعية تماماً توضح توصيف السلطة للأزمة، وهي أنّ الأزمة الراهنة ليست إلّا محطة عابرة كأزمات النظام الماضية والحل اقتصادي بحت، كـ "حلولها" من باريس ١ إلى سيدر، وهو العودة إلى الجهات الدولية للحصول على دولارات لإعادة تنشيط الاقتصاد اللبناني المدولر. إلّا أن ما تعيه السلطة اللبنانية وتحاول إخفاءَه هو أزمة ركيزة النظام السياسي اللبناني، أي الطائف. ولعلّ الحكومة الجديدة خير دليل على ذلك إذ انهارت أمام عيون أهل السلطة ديمقراطيتهم الخاصة، أو ما يُسمّى بالديمقراطية التوافقية، و بالتالي الشكل الذي من خلاله سيطرت للبرجوازية اللبنانية على الدولة من ٣٠ سنة و تمكّنت من اتّباع سياساتها النيوليبرالية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. واقع الحال أن هذا النظام أرساه ميزان قوى دولي مضى عليه الزمن وبالتالي فإن المنظومة السياسية مأزومة بحكم موازين القوى الجديدة دولياً و تراجع لنفوذ المركز الغربي في المنطقة والخسائر التي تكبّدها وهو الداعم الأول لنظام السيطرة الطبقية للبرجوازية اللبنانية.من جهة أخرى فإن التناقض الأساسي الذي يحكم موضوعياً كلّ بنية اجتماعية، أي التناقض الاقتصادي، وصل إلى حدّه الأقصى إذ إن البرجوازية اللبنانية فاقمت هجومها الطبقي واستغلالها للمجتمع بفئاته المسحوقة. فبغضّ النظر عن الشكل "الملطف" للعمل المأجور في لبنان باعتبار أن البنية الإقتصادية اللبنانية ريعية الطابع وبالتالي طبيعة الطبقة العاملة المشتّتة في القطاعات الخدماتية، وصلت البرجوازية اللبنانية إلى حدِّ انها تعدّت حتى على المبدأ الأساسي للعمل المأجور الذي أنتجته تاريخياً. فالعامل اللبناني بات غير قادر على إعادة تجديد قوة عمله بعدما باتت السلة الغذائية الأساسية أعلى من الحدّ الأدنى للأجور بأربع أضعاف.
البديل السياسي والمجال العالمي الجديد
بغضّ النظر عن ما حقّقته الانتفاضة الشعبية من ١٧ تشرين إلى اليوم، من إسقاط ورقة الحريري إلى الضغط على المصارف، فإنها ما زالت في حالة الخمول السياسي، أو على الأقل في وضعية دفاعية أمام هجوم طبقي ممنهج على الفئات الشعبية الخاضعة. و بقاؤها على هاتي الحال ليس إلّا دفع نحو المزيد من الفوضى العارمة.
وصحيح أنّ قوى السلطة مأزومة ولكن يجب الاقرار أيضاً أن قوى التغيير ليست في أفضل حالاتها، ذلك أن خطابها السياسي ينحو باتجاه اعتبار التناقضات المحلية وحدها التي تشكّل أساساً لاي تغيير سياسي وهذا ما يخالف برأيي أسس النظرية الماركسية اللينينة. إن الارتباط البنيوي بين منظومة النهب الداخلية (من الطغمة المالية إلى رعاياها في اجهزة الدولة) بمنظومة النهب الإمبريالية يضع خطوة ضرورية أمام أي حركة سياسية ممكن أن تنبثق من الحركة الشعبية : قطع العلاقة مع منظومة النهب الإمبريالية المتمثلة برأس المال المالي العالمي وأدواته و بخاصة الدولار الذي باتت حصته من الاحتياطات النقدية العالمية تسجّل تراجعاُ ملحوظاً بحسب آخر إحصاء للبنك الدولي.
فتغيير نظام سيطرة منظومة النهب الداخلية لا يحصل من دون هذا القطع. ومن هنا فصعود قوى عالمية (كروسيا والصين تحديداً) و تعاظم نفوذها، يدفعان نحو هذا القطع لكسر السيطرة الأميركية الأحادية على العالم، هو في صلب مصالح الحركات الشعبية في لبنان والعالم لتخطو نحو التحرّر من نير النهب والاستغلال. إنّ الدعم الذي تقدّمه هذه الدول، والمتمثّل بدفعها نحو الحلول السياسية (من سوريا الى اليمن و ليبيا.. الخ) ليس إلّا فرصة أمام قوى التغيير الجذري لتقوم بدورها التاريخي بتأمين بديل عام لهذا النظام.
خلاصة
محصّلة كلّ ما ذُكر، هي، أن ما هو ضروري اليوم هو كسر النظرة النمطية للأزمة الراهنة باعتبارها أزمة اقتصادية كالأزمات السابقة والذهاب نحو توصيف أكثر دقّة للأزمة باعتبارها أزمة نظام اقتصادي - سياسي عاجز عن إعادة تجديد نفسه، وأزمة نمط الانتاج الريعي الذي لا يمكن تخطّيه من دون القطع مع نظام النهب العالمي (على رأسه الولايات المتحدة الأميركية).. و بالتالي من الملّح الدفع نحو التغيير الشامل لمجمل العلاقات التي كانت تحكم البنية الاجتماعية اللبنانية. من هنا ضرورة أن نعي بأن هذا التغيير لا يحصل ما دامت الحركة الشعبية في حالة دفاع سياسي وفي غياب للرؤية الشاملة لدى قوى التغيير والتي من دونها (أي الرؤية).. تبقى الحركة الشعبية مكبوحة و مسدودة الأفق. إضافة إلى ذلك، كما أن النظام الذي أرساه الطائف أتى بدفع من ميزان قوى دولي كان سائداً، فتغييرهذا النظام وولادة الجديد التاريخي محلياً يتطلب توصيفاً دقيقاً وعلمياً للمرحلة الراهنة للمجال العالمي بميزان قواه الجديد والاستفادة من هذا المجال لصالح عملية التغيير.