هم المقاومون الوطنيون الذين حرّروا الأرض من العدو الصهيوني، ويتابعون اليوم مسيرة تحرير اللبنانيين من الطائفية والمذهبية وتحرير المال والأملاك العامة المنهوبة من قبل تحالف الزعامات الطائفية وحيتان المال والمحتكرين وأصحاب الريوع على مدى ثلاثين عاماً. ومقاومتهم كانت وما تزال فعلَ تحرّرٍ وطنيّ واجتماعي، ويتجلّى فيها ومن خلالها الصراع الطبقي ضدّ النظام السياسي الطائفي وتبعيته للرأس المال المعولم ومنظماته الدولية التي لم تدخل بلداً إلّا وأفلسته بغرض إخضاعه للشروط السياسية للامبريالية ومشاريعها العدوانية في لبنان والمنطقة.
انطلاقاً من ذلك كانت إدانتنا ومواجهتنا لقرار موافقة الحكومة اللبنانية المستقيلة على ورقتها المُسمّاة إصلاحية وعلى مقررات سيدر، التي تقضي ببيع ما تبقّى من مؤسسات عامة وخصخصتها استجابةً للضغوط الأميركية على لبنان، وهي ضغوط لم تترك باباً إلّا وطرقته لإخضاع بلدنا عبر فرض القيود على تحويلات اللبنانيين وتعميم العقوبات الاستنسابية على المصارف والشركات اللبنانية والأفراد، إلى جانب تصعيد الخطاب السياسي الأميركي الرسمي وكذلك تقييمات مؤسسات تصنيف المخاطر ضدّ الاستقرار النقدي والمالي للبلد. وقد جاء انصياع أطراف الحكومة المستقيلة لهذه الضغوط ليكشف طبيعة السلطة السياسية المتنفّذة التي لم تحقق هدفها في منع الحريري من الاستقالة، فبادر هذه الأخير إلى الاستقالة تحت ضغط الانتفاضة بالأساس، بينما كان المطلوب أن يتحمّل القسط الأكبر من مسؤولية الأزمة السياسية والاقتصادية – الاجتماعية المتفاقمة.
إن الانتفاضة حدثٌ تاريخيّ يعبّر بشكل ساطع عن رفض الشعب اللبناني للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المسدود الأفق الذي وصلت إليه البلاد، وهي الترجمة العملية للاعتراض الشعبي غير المسبوق على سياسات التحالف السلطوي المتمسك بنظام الفساد والزبائنية والمحاصصة الطبقية والطائفية.
وتكمن الأهمية التاريخية الأولى لهذه الانتفاضة في طابعها الوطني العابر للطوائف والمذاهب والمناطق، ممّا يعكس القفزة النوعية المتحقّقة على مستوى الوعي لدى فئات شعبية واسعة لطالما استكانت للاصطفاف الطائفي ظنّاً منها أنّ هذا الاصطفاف يؤمّن لها الحماية الاجتماعية، فإذ بهذه الفئات تكتشف اليوم زيفَ هذا الظّن، فتنتفض في الشارع مُحمّلةً السلطة السياسية مسؤولية الأزمة.
إنّ هذه القفزة النوعية في الوعي الجماهيري أصبحت مرشّحة للاتّساع أكثر فأكثر في المستقبل القريب، لأنّ النظام الطائفي كان يستمد قوته السياسية عبر "فتات" الخدمات التحاصصية والزبائنية المتنوّعة التي كان يشتري بواسطتها الولاء من جانب أتباعه. وقد بات هذا النظام في الظروف الراهنة عاجزاً عن الاضطلاع بوظيفته هذه بعدما تقلّصت، بل سدّت، قنوات تدفق رؤوس الأموال من الخارج. ممّا يعني بدء انهيار النظام الزبائني، واتجاه زعماء الطوائف أكثر فأكثر نحو القمع والاعتداء على المتظاهرين الذين كانوا يخرجون بعد كل اعتداءٍ أكثر قوّة وعزيمة وتصميماً على إجراء تغيير في السلطة السياسية التي انعدمت ثقة الشعب فيها وباتت مكشوفةً أمامه.
لقد تجاوزت جماهير المنتفضين ولاءاتها الضيّقة لزعماء الطوائف والمذاهب، فتحرّر خطابها وكسرت قيود التفكير السائد، وواصلت انتفاضتها وتمسكها بمطالبها معتبرة استقالة الحريري استقالة للحكومة بكل أطرافها السياسية. وقد وجدت في رفع العلم اللبناني ما يوحّدها ويعبّر عن انتمائها الوطني اللاطائفي، الأمر الذي انعكس في كثافة حضورها ومشاركتها النشيطة في الندوات والتظاهرات والاعتصامات، يحدوها الأمل في التغيير الديمقراطي.
أمّا الأهمية التاريخية الثانية للانتفاضة، فتكمن في كونها انتفاضة اجتماعية تشارك فيها شرائح واسعة من العمال والأجراء والمُعطّلين عن العمل والمُهمّشين وسائر الفئات المدينية والريفية التي سحقتها الأزمة، مطالبةً بفرص العمل والمياه والكهرباء وسوى ذلك من حقوق. ويحتل الشباب والطلاب، وبخاصة النساء والشابات والطالبات، دوراً مميّزاً، حيث تتقدّم عشرات الآلاف منهن الصفوف في طرح تطلعات الانتفاضة نحو تفكيك نظام الهيمنة الذكورية والتمرّد على إحكام السلطة قبضتها على إدارات المدارس والجامعات والإدارات والمؤسسات العامة الخاصة والدينية. وهذا الحضور النسائي الهام جدّاً في الانتفاضة، جعل من الاعتداء عليهنّ تحديداً مدعاة للخزي والعار للسلطة وميليشياتها الطائفية.
لقد أرست الانتفاضة موازين قوى جديدة اجتماعية وسياسية في البلاد، ولكن محصلتها الراهنة لم تتوصّل حتى الآن إلى تحقيق الهدف الأساسي لها في إعادة تكوين مرتكزات السلطة السياسية، وهو ما يستوجب الإعداد للدخول في مرحلة انتقالية يكون هدفها الحفاظ على إنجازات الانتفاضة وتثبيت ميزان القوى الذي أحدثته والعمل على تحسينه بشكل دائم.
ويفرض هذا الواقع على قوى التغيير الديمقراطي الاضطلاع بدورها في هذه المرحلة الانتقالية عبر إجراء حوار مشترك- بات ملحّا - حول رؤيتها وبرنامج عملها المرحلي وصولاً إلى بلورة تيار ديمقراطي للتغيير، كأداة لتجميع وحشد الطاقات وترجمتها الفعلية في موازين القوى المستجدّة التي نشأت بفعل الانتفاضة، والعمل على البناء عليها للانتقال بلبنان من مسار سياسي اقتصادي واجتماعي أوصل البلد إلى الانهيار، إلى مسار آخر يفتح الطريق للعبور من دولة المحاصصة الطائفية إلى الدولة الوطنية المدنية والديمقراطية.
إنّ مهام المرحلة الانتقالية تقضي باستكمال خوض وتطوير هذه المواجهة من أجل إعادة تكوين السلطة السياسية باعتبارها المهمة الأساس، فضلاً عن مواجهة الضغوط والتدخلات الأميركية والفرنسية التي بتنا نسمعها يوميا من خلال تصريحات وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، وزيارة الموفد الفرنسي، والتي لا بد من إدانتها، رفضاً للتدخلات الامبريالية في شؤون لبنان الداخلية، وقطعاً للطريق على محاولات استثمارها في عملية توظيف الانتفاضة لصالح المشاريع العدوانية ضدّ لبنان ومقاومته. وأبرز مهام المرحلة يكون من خلال ألآتي:
- تشكيل حكومة انتقالية وطنية ذات صلاحيات استثنائية ولمدة محددة من خارج المنظومة السياسية الحاكمة، على أن تعمل بشفافية كاملة تحت رقابة الانتفاضة والشعب اللبناني عموماً.وتتركّز مهمّات هذه الحكومة بشكل أساسي على: إجراء انتخابات نيابية مبكرة خارج القيد الطائفي استناداً إلى الدستور اللبناني (المادة 22)، واتخاذ كل الإجراءات المطلوبة لاستعادة المال والأملاك العامة المنهوبة، وإعادة هيكلة النظام الضريبي وبنيان الإنفاق العام. أمّا من يطالب بحكومة تكنوقراط فهو يطالب عمليّاً بخبراء يعرفون كيف ينفذون تقنيّاً مقررات سيدر والورقة المسماة إصلاحية، مع الاستجابة – سواء العلنية أو الضمنية - للشروط السياسية الاميركية.
- مواصلة الانتفاضة طيلة المرحلة الانتقالية، باعتبارها انتفاضة للتغيير السياسي، أما طرح المطالب فيجب أن يهدف لتعديل موازين القوى، مع اعتماد أساليب تحرّك متنوعة تركز بالأولوية على حقوق العمال والأجراء والشباب والفئات الاجتماعية الأكثر فقراً وحاجة وبما يتناسب مع الظروف والتطورات المستجدة، بغية تعزيز الاحتضان الشعبي للتغيير المنشود.
- إنشاء هيئات على المستويين الوطني والمحلي لدعم الانتفاضة والمساهمة في الرقابة على أعمال الحكومة، على أن تتشكل من الفاعليات والهيئات الممثلة لمختلف قطاعات المجتمع المؤيدة للانتفاضة. بالإضافة إلى تشكيل منابر متعددة من أصحاب الاختصاص تقوم بتقديم الاقتراحات والدراسات التي تساعد الانتفاضة على تطوير عملها للمشاركة في أعمال الرقابة على إداء الحكومة (منبر اقتصادي ومالي، واجتماعي، وحقوقي، وتربوي، وصحي، وعمالي، وإعلامي...).
- إعطاء الأولوية للانخراط في بناء حركة نقابية مستقلة تحت صيغ تتجمع فيها وحولها كل المكونات والأطر النقابية المستقلة، لتدافع عن مصالح القطاعات كافة، بمن فيهم المُعطّلون عن العمل والمكتومون والمياومون والعمال وسائر الموظفين والأجراء وأصحاب الدخل المحدود.
إن المرحلة الانتقالية المقبلة ستكون محكومة بشكل رئيسي بمسارات ثلاثة، تصعيد الانتفاضة وتشكيل الحكومة ومواجهة خطر الانهيار المالي والنقدي. ويرتدي موضوع تصعيد الانتفاضة وتنظيمها الأهمية القصوى في مواجهة مخاطر المسارين الآخرين، لذا يجب إعطاؤها كل الاهتمام لقطع دابر محاولة الالتفاف على إنجازاتها. فلا ثقة في حكومة تعيد إنتاج السلطة السياسية الفاسدة والمنحازة إلى حيتان المال والريع، ولذلك لا بد من التحضير لتصعيد الانتفاضة سيّما اذا ما حصل الانهيار المالي والنقدي الذي قد ينضوي على احتمالات عدّة حسب بعض الخبراء، وأهمّها:
- احتمال تسارع انخفاض سعر صرف الليرة تجاه الدولار، وهذا يعني في الفرضية المذكورة زيادة غير مسبوقة في أسعار الاستهلاك وتكاليف المعيشة، وانخفاضا الى نحو النصف في القوة الشرائية للمداخيل والأجور والتعويضات والمعاشات التقاعدية في الفترة المذكورة (وهذه تطال غالبية اللبنانيين، لا سيّما العمال والمتقاعدين وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى فضلاً عن جيش الفقراء والشباب والمتعطلين عن العمل).
- احتمال انفجار الأزمة في المصارف بالتزامن مع توقف الدولة عن سداد ديونها (وسداد خدمة الدين، لا سيّما على سندات اليوروبوندز)، مما قد يحتّم اللجوء إلى عملية تصفية جزء من قيمة الأموال المودعة في هذه المصارف، و/أو إلى تصفية جزء من قيمة رؤوس الأموال الخاصة بالمصارف. ولا يمكن التكهّن منذ الآن بالأشكال التي قد ترتديها تصفية الودائع.
إنّ كل هذه المخاطر يجب أن تحفّز القوى الديمقراطية والهيئات النقابية المستقلة على تحمل المسؤولية التاريخية بحيث تتولّى الإعداد لمواجهة مرحلة "الآتي الأعظم"، لتتمكّن الانتفاضة من كسر موازين القوى السائدة واستكمال تحقيق عملية التغيير المنشودة.