انفجرت الأسئلة في رأسي


هل تتخيلون كيف يمكن أن تكون حياة شاب في لبنان بعمر الثامنة عشر في عام ٢٠٢٠؟ هذا الشاب هو أنا اذ أستعدّ دخول عامي الجامعي الاوّل وسط أسوأ أزمة اقتصادية يعيشها البلد منذ ٣٠ عاماً. إذا، ها هي سنتي الجامعية الاولى تدقّ الأبواب. أسئلة كثيرة تنتابني: هل ستبدأ؟ هل سأكملها؟ كيف ستكون صورة المدينة بعد شهر من الآن؟ وكيف لنا أن نعيش مع تداعيات الانفجار الكارثية؟ نجونا نعم، ولكن كيف ستنجو حياتنا بعدها وأنا أقبل بنهم على مواصلة حياتي في بيروت. انه لبنان.. بلد احتمالات الموت الكثيرة.



آخر كوارثنا هي الانفجار، إذ يعيش لبنان اليوم حالة من الصدمة بعد انفجار دام في مرفأ بيروت خلّف آلاف القتلى والجرحى. ضجّ العالم كله جرّاء هذه المصيبة، فتحولت مدينتنا إلى ساحة تعج بالجثث والجرحى. بيروت التي نهضت هذا الصباح لتعاين الكارثة على حقيقتها، ستكون بالتأكيد على غير تلك الصورة التي عرفها بها أهلها ومحبوها. بيروت تلك المدينة التي قضيت فيها أشهراً عديدة وأنا أتظاهر في شوارعها وأحيائها. بيروت التي حفظتها عن ظهر قلب بعد أن مشيت وهتفت ورفعت قبضاتي وناديت بإسقاط من تسبّب بانفجارها قبل انفجار المرفأ، ترى هل كان ينقصها انفجار؟! حياتنا كانت عبارة عن انفجار متواصل الزمن. أن تنجو في بيروت من الازمة الاقتصادية كان شبه مستحيل الاّ إذا كنت من أغنياء البلد. ولكنني أعيش كسائر أتراب جيلي في وطن لا أعرف كيف سيكون مستقبله بعد أيام عديدة. أصبحت أقصى طموحاتنا أن نخطّط ليوم لا لشهر ولا لسنة. تخيلوا!

لقد قررت أن أدرس المحاماة ومن ثم الفلسفة، إذ تعتبر مهنة المحاماة من أهم وأعرق المهن على الاطلاق. فأنا أحلم بتطبيق العدل وترسيخ الإنصاف، فالمحامي يتجلّى سلوكه بالقيم التي تزين علم القانون كالصدق والاستقامة والرزانة. انّ رسالة المحامي تكمن دوماً في تحقيق العدل استناداً الى القانون، والقانون يُطوّع دوماً في بلادنا لمصلحة القويّ، والقوّي هو الغنيّ. فلا نصير للفقراء حينها. لذلك، والتزاماً منّي بقيم العدالة الاجتماعية التي لطالما آمنت فيها، وجدت أن درس الحقوق هو من سيحقّق لي هذا الهدف. هدف شديد الارتباط بالدافع الذي أملاني للنزول الى الشارع في ١٧ تشرين. هنا سيتكامل درسي مع نضالي، وهذا أحلى ما في الامر. ومن أكثر الأقوال التي أثرّت على اختياري المحاماة قول دوجيسو، رئيس مجلس القضاء الأعلى في فرنسا: " ان المحاماة عريقة كالقضاء. مجيدة كالفضيلة.. ضرورية كالعدالة.. هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب.. حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان .. المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبدًا له .. ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة .. غنيًا بلا مال .. رفيعًا من غير حاجة إلى لقب .. سعيدًا بغير ثروة. "

بعد أربع سنوات، من المفترض أن أتخرّج. ولكن دعونا نلقي نظرة سريعة الى واقع سوق العمل. تشير الإحصاءات الى أن نسبة العاطلين عن العمل ستصل الى مليون شخص، وربما أكثر، بحلول نهاية عام ٢٠٢٠. إذا افترضنا أنّ البطالة ستزيد مليوناً كل عام، هذا يعني، وبعملية حسابية بسيطة أنه وبحلول عام ٢٠٢٤ (أي موعد تخرجي من الجامعة)، سيصبح معدّل البطالة في البلد حوالي أربعة ملايين لبناني. هل لكم أن تتخيلوا مستقبلي " المزدهر " في هذا البلد. انّ الحلم بمستقبل باهر في ظل هذه الأزمات لربما يكون ضرباً من ضروب الخيال. منذ صغري وأنا أسمع بلبنان سويسرا الشرق، لبنان مركز السياح، لبنان بلد الأحلام ولكن لم تسنح لي الفرصة أن أعيش تلك الفترة الذهبية فأنا اليوم تخرجت في عزّ الأزمة، إذ يمر لبنان بعجز مالي ووضع اقتصادي صعب، يجعله غير قادر على استيعاب وتوظيف المزيد من اليد العاملة. إزاء هذا الواقع، ماذا أفعل بشهادتي المدرسية ومن ثمّ الجامعية؟ فهذه الشهادات أصبحت تزين جدار الغرفة فحالي كحال بقيّة الشبّان والشابات في هذا البلد اذ يقول أحد أصدقائي: " لا يوجد شيء يحفّزني على القيام بأي شيء في لبنان، لا فرص العمل متاحة، لا الكفاءات تلعب دورها في التقييم الوظيفي، فلماذا أتعب وأشقى؟ الجلوس هنا أفضل من عيش هموم الحياة اليومية".

وعند الحديث عن المستقبل، انظروا الى كمية التساؤلات والهواجس التي تنتابني. في حال عثرت على فرصة عمل بعد التخرج، وبالتالي وجدت عملاً يليق بمستواي العلمي، فهل يمكنني أن أُحظى بعمل وأنا الشاب غير المنتمي الى أي حزب من أحزاب السلطة، وتعلمون مدى تغلغل أحزاب السلطة ودورها في ادخال أزلامها سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص. مؤسف ما أراه وأسمعه يومياً إذا تقوم شريحة واسعة من الاهل بتشجيع أبنائهم على خيار الهجرة. وهنا أعيش ارباكاً داخلياً لا مثيل له اذ انّ والدي من أكثر الأشخاص الذين يطلبون مني أن أهاجر، فبنظره المستقبل بائس هنا. أما بالنسبة إلى شاب يساري لبناني، فأنا أحلم بالتغيير، كل يوم، كل دقيقة. الهجرة هي هروب من تحمّل المسؤولية وهي غير واردة في قاموسي.

 

حلمنا ذات تشرين بأننا سنعيد بناء الوطن. ترى هل كنا مثاليين الى هذا الحد؟ أو عاطفيين هذه الدرجة؟ لا أعتقد ذلك اذ أن جلّ ما أحلم به، أنا غدي صالح، أن يكون " غدي" في هذا البلد " صالحا " للعيش فيه.
ثمة أمران ينبغي تحقيقهما لكي يتحقّق هذا الامر. أولاً، سنكنّس حطام وركام ما تسبّب به انفجار المرفأ. والامر الثاني هو أننا سنكنّس هذه الطبقة السياسية الفاسدة والمجرمة كي يستقيم وطن العدالة والمساواة. ذلك الوطن الذي حلمنا فيه ذات خريف.