لا يقتصر الانهيار على الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي. فهناك تسارع في انهيار وتآكل مقوّمات الدولة بالذات، فكأن الدولة تضمحل كقبضة من الرمل تتسرّب من بين الأصابع، وتحلٌّ مكانها الدويلات المعروفة الموروثة عن مرحلة كانتونات الحرب الأهلية الرأسمالية المافيوزية.
يرتبط انهيار الدولة بعجز الطبقة المسيطرة عن التوافق على الحكم وإدارة البلاد. فالطبقة الحاكمة متصدّعة لجهة وحدتها، وهي منقسمة لجهة مشروع حكمها، وتعدّدية تبعيتها للخارج. مأزق الطبقة المسيطرة، وانفراط عقد التوافق بين أطرافها، ينعكس في عجزها عن تشكيل حكومة. فمنذ انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 تبيّن هذا العجز بوضوح، منذ استقالة حكومة سعد الحريري، مروراً بتشكيل حكومة دياب ثم استقالتها، وفشل تكليف اللبناني - الفرنسي مصطفى أديب بتشكيل حكومة، وصولاً إلى عجز الحريري عن تشكيل حكومته.
"الدولة الفاشلة"
قال ناصيف حتي، وزير الخارجية اللبناني، في بيان استقالته من حكومة حسان دياب، صباح الإثنين في الثالث من آب لهذا العام: "شاركت في هذه الحكومة من منطلق العمل عند ربِّ عملٍ واحد اسمه لبنان، فوجدت في بلدي أرباب عمل ومصالح متناقضة"؛ وأضاف: "لبنان ينزلق للتحوّل إلى "دولة فاشلة"". معنى كلام الوزير المستقيل أنه لا يوجد في لبنان دولة واحدة موحَّدة ("رب عمل واحد") بل مجموعة دول (أرباب عمل) متناقضة المصالح داخل الدولة، ما يشكّل برأيه "دولة فاشلة" ينزلق إليها لبنان. فما "الدولة الفاشلة" التي يخشى الوزير من انزلاق لبنان إليها؟ وهل لبنان ينزلق إليها أم هو بالضبط في صميمها بالذات؟
"الدولة الفاشلة" (“failed State”)، مفهوم يعني الدولة التي لم تعد قادرة على أداء وظائفها الأساسية ومنها السيادية... ويقترب من مفهوم "الدولة الفاشلة" مفهوم "الدولة الناعمة" «Soft State» (غونار ميردال عام 1968). "الدولة الناعمة"، هي الدولة التي لا تلتزم بتطبيق القوانين، ويعمُّ فيها انتشار الفساد في السلطتين التنفيذية والتشريعية وفي الإدارة، ويصل إلى القضاء والجامعات، كأن يصبح الفساد في ظلّ هكذا دولة "أسلوب حياة"؛ ومن خصائص "الدولة الناعمة" تعددية مراكز القرار وتضاربها، كأنّ ثمة مجموعة من الدول داخل الدولة. هذا بالإضافة إلى ضرورة خضوع "الدولة الناعمة" لتدخل خارجي حتمي اقتصادياً ومالياً وأمنياً أحياناً، بنوع من انتداب متعدّد لمراجع إمبريالية. لا شكّ أن توصيف "الدولة الفاشلة" أو "الناعمة" ينطبق على ما هي عليه الدولة اللبنانية. وهذا ما يلهج به كثر من رجالات الدولة اللبنانية، ويلمسه عامة المواطنين.
إنّ "الدولة الفاشلة" أو "الدولة الناعمة" في بلدان المستعمرات السابقة أو في البلدان التي كانت، وما تزال، "شبه مستعمرة" هو مسألة بنيوية ترتبط بطبيعتها الاقتصادية، الرأسمالية بالتحديد. فمن المعروف أن التفاوت في التطوّر الاقتصادي والسياسي هو قانون مطلق للرأسمالية. ومنذ أن غدا الرأسمال عالمياً واحتكارياً تحوّلت الرأسمالية إلى إمبريالية، تشكّلت بنية مزدوجة في الرأسمالية العالمية (مفعول قانون التطوّر المتفاوت). أصبح العالم مقسَّماً بين بلدان مسيطِرة وبلدان خاضعة (المستعمرات، شبه المستعمرات). البلدان المسيطِرة قائمة على بنية امبريالية، والبلدان المستعمرة قائمة على بنية رأسمالية تبعية، خاضعة لهيمنة البلدان الامبريالية. وعليه فإن "فشل" الدولة اللبنانية (أو "نعومتها") مسألة بنيوية بحكم بنية اقتصادها الرأسمالي التبعي للإمبريالية (الرأسمالية العالمية).
وعليه، هذا "الفشل" في الدولة اللبنانية يكمن أساساً في تبعيتها (خضوعها) لدول واقتصاديات وسياسات الرأسمالية العالمية (دول الغرب عموماً، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية، وبشكل مميز الدولة الفرنسية)، فلا يكون الاهتمام الأساسي للدولة العمل لخدمة مستلزمات اقتصاد وتطوّر وحاجات المجتمع اللبناني، بل متطلبات التبعية للرأسمالية العالمية.
وما عَمَّق من "فشل" الدولة اللبنانية هو عملية إعادة تكوّن الرأسمالية اللبنانية طيلة عقد من الحرب الأهلية، قبيل اتفاق الطائف مباشرة، من جهة، وطبيعة النظام السياسي الطائفي من جهة أخرى، خصوصاً مع اتفاق الطائف. ففي مرحلة الحرب الأهلية المقصودة، بدأ لبنان يشهد تكوّن قيادات الميليشيات - المافيوزية كطبقة رأسمالية "متحالفة - متخالفة"، مكوّنة بطبيعة الحال من الرأسماليين المافيوزيين (بأخلاقهم وقيمهم وممارساتهم). ومع اتفاق الطائف اندرجت هذه الرأسمالية المافيوزية في توحيد الدولة، مع احتفاظها بكلّ هيمنتها على المؤسسات الرسمية بمشاركة الرأسماليين الوافدين من الخارج (حيتان المال) للاستثمار في هذه الدولة "الهشة" برعاية سورية مباشرة ومباركة خليجية وغربية.
هذه الطبقة الرأسمالية اللبنانية منقسمة على ذاتها، فريقين أساسيين. فريق أول (هو قسم كبير منها) على تبعية للرأسمالية العالمية وسياسات دولها والخضوع لإملاءاتها، ولخطط المؤسسات الدولية المصرفية والاقتصادية التابعة لها وللأمم المتحدة. ويضمّ هذا الفريق تيار الحريرية السياسية (المستقبل) الحزب الجنبلاطي، القوات اللبنانية، الرأسمالية المصرفية، وقسم من الاحتكارات التجارية، وحيتان المال... وفريق ثانٍ، على الرغم من طموحه للدخول في المجال الاقتصادي والمالي للرأسمالية العالمية، فإنه على تبعية سياسية لمحور الممانعة بقيادة إيران، الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتحجيم نفوذه (على الساحة اللبنانية وفي المجال الإقليمي والعالمي): حزب الله، حركة أمل، التيار العوني و... لا ينفي ذلك وجود بعض الفروقات والاختلاف والتوافقات أحياناً بين أطراف كلٍّ واحدٍ من الفريقين، وأطراف من كلا الفريقين (أمل والمستقبل، أو التيار العوني وحزب القوات).
هذان الفريقان الأساسيان في الرأسمالية اللبنانية يشكلان طبقة أطرافها "متحالفة - متخالفة". يتصارعان على مسائل السياسة الداخلية الاقتصادية والعمرانية والإدارية و... وقد يتفقان عليها في لحظات المحاصصة انسجاماً مع تراثهما الميليشيوي والمافيوزي؛ وبذلك يشكلان طبقة "متحالفة - متخالفة". ويختلفان ويتصارعان على مسائل السياسة الخارجية، وانعكاساتها في السياسة الداخلية؛ بحكم التبعية الخارجية لكلٍّ منهما، وهي تبعية متناقضة في الغالب.
هل من رهان على بايدن؟
وتتوجّه اليوم سياسة ترامب، بعنجهية وصلف لا يُطاق، بمزيد من الضغوط والعقوبات على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعلى حزب الله. وهناك دفع باتجاه ألاّ يشارك حزب الله في تشكيل أي حكومة لبنانية. وهذا ما يجعل عملية تشكيل الحكومة، في ظلّ هذه الشروط، صعبة للغاية. وهناك من يرى أن حزب الله، ومن خلفه إيران، يعتمد، من باب التكتيك، المماطلة في عملية تشكيل الحكومة إلى زمن استلام بايدن لمهامه في الإدارة الأميركية، على اعتبار المراهنة على أن بايدن قد يتبع سياسة متناقضة مع سياسة سلفه ترامب.
إنّ السياسة الخارجية الأميركية ليست من صنع الرئيس، وإن كان هو الذي يعلنها. فمن المعروف أنه منذ الخمسينيات من القرن العشرين، لم تعد الولايات المتحدة تلك الدولة الديمقراطية التي تغنّى بها توكيفيل في منتصف الثلاثينيات من القرن التاسع عشر. ومن المعروف أن ايزنهاور، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة (من عام 1953 حتى 1961)، بدأ صراعاً غير متكافئ للغاية مع "المجمع الصناعي العسكري" وشجبه بوضوح شديد في خطابه الأخير في كانون الثاني 1961، وحذّر مواطنيه من "المجمع الصناعي العسكري".
وقبل الرئيس أيزنهاور، قام السوسيولوجي الأميركي تشارلز رايت ميلز، بفضح المرجعية الخفيّة التي تتحكّم بالسلطة الفعلية في الولايات المتحدة الأميركية، ومن خارج مؤسسات الحكم الديمقراطية، في مؤلَّفهِ "النخبة الحاكمة"، أو "سلطة النخبة" (1956)، حيث أعتبر ميلز أن السلطة الفعلية تكمن في "المجمع السياسي - الاقتصادي- العسكري" الذي يوجّه سياسات الولايات المتحدة.
يتحدّث كثر من المحلّلين عن مسألة استمرارية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، واعتبار "إنها نوع من سفينة ضخمة، تصعب إعادة توجيهها وإدارة مناوراتها، لكنها خاملة جداً لدرجة تبدو وكأنها تمضي قدماً بمفردها بغضِّ النظر عن أيّ شيء، غير متأثرة بتقلبات التاريخ البسيطة"، وأن "السياسة الخارجية الأميركية لن تتطوّر إلّا في حدود ضيّقة للغاية". واعتباراً من العام 2016 صار يُطلق على مختلف مصادر القوّة في صنع قرارات السياسة الخارجية مفهوم "الدولة العميقة" "Deep State"، أو المؤسسة establishment.
وعليه أغلب الظنّ أن بايدن لن يجري تعديلات جذريّة على سياسة ترامب تجاه إيران وحزب الله، وإن أظهر الاستعداد للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران فذلك بشروط أقسى من شروط ترامب، وبما يتجاوز إطار اتفاق الأساسي.
خلاصة الأمر. لا جديد يؤمل من كلّ ما يدور دولياً وإقليمياً وداخلياً حول الأزمة اللبنانية. لا تستطيع هذه الطبقة المسيطرة، بكلّ أطرافها "المتحالفة - المتخالفة" أن تحلَّ أيِّ أزمة في لبنان. وواهم من يتوقّع من تشكيل أيّ حكومة، إن تشكلت، أن هذه الحكومة ستُطعم الناس، ستُعيد للناس ما سُرق منها... فالأمور ستذهب من سيء إلى اسوأ.
ألن يولِّدَ هذا البؤس الذي سيتعمّم الاستياء العام؟ ألن تردَّ الطبقات الكادحة على فشل وفساد وظلم الطبقة المسيطرة؟ لن يكون ذلك بغير تصعيد الانتفاضة حتى إسقاط هذه الطبقة المسيطرة ونظامها الطائفي. هذه هي المهمة الراهنة، الآنية، الواقعة على عاتق القوى الشيوعية والتقدمية: بناء الكتلة الشعبية من الجماهير الكادحة والفئات الاجتماعية المتوسطة والمتحوّلة بسرعة إلى صفوف الفقراء. المَهمة المطلوبة هي: دفع هذه الكتلة الشعبية إلى الثورة لإسقاط هذه الطبقة المسيطرة ونظامها الطائفي بدولته الفاشلة.