أمّا وقد أصبحنا على واقع كالذي نعيشه اليوم، فلا بدّ لنا من تحديد بعض ما يجب فعله: مقتلة ينفذها العدو. ساحاتها بلادنا العربية. ضحاياها الشعوب ومستقبلها. التاريخ يتكرر بشكل مأساوي وبتصاعد. لم تتوقف النكبات عن التتالي منذ أكثر من خمسة قرون. هيستيريا مستمرة لا تهدأ أو تستكين. شعوبنا تتوالد مع المصائب وتتآخى معها حدّ التماهي. الأفق مقفل والرؤية مغشية... القتل والتجويع والتهجير هو القائم ولا شيء يقف في دربه. هي مأساة وجلجلة ودروب الأحزان المتتابعة على أكثر من صعيد. شعوب أعياها القتل فتعودت، وآخاها الجوع فقبلت.
هو سؤال باتجاهين: نحو الماضي حيث البداية وباتجاه المستقبل حيث الاستكمال. فالاقتناع بالمبادئ والإيمان بعدالة القضايا والانحياز الطبيعي إلى فئات اجتماعية بعينها...
هو سؤال باتجاهين: نحو الماضي حيث البداية وباتجاه المستقبل حيث الاستكمال. فالاقتناع بالمبادئ والإيمان بعدالة القضايا والانحياز الطبيعي إلى فئات اجتماعية بعينها...
أمّا بعد، فقد بان خيط أبيض الانتخابات الأميركية من أسودها، بعد حملات انتخابية غير مسبوقة، إن لناحية حدّة الخطاب السياسي بين المرشحين ومستواه، أو لجهة السلوك المرافق، والذي اتسم بالبلطجة والعنف، والذي يشبه تماماً مسار الولايات المتحدة الأميركية وصورتها الحقيقية كراعية للإرهاب في العالم وقاعدته. لقد انجلى غبار الموقعة تلك عن انتصار "مؤجّل" للمرشح الديمقراطي والذي أصبح رئيساً، وعن هزيمة مدوّية للمرشح الجمهوري الآتي، في الأساس، من خارج الصراع السياسي التقليدي المتوارث، والذي أعطى للسياسات الأميركية في العالم الصورة الأوضح عنها وعن طبيعتها القائمة على الحروب والحصار والعقوبات... وكي لا نقع في فخ المقاربة، بين السابق والحالي، نؤكد بأن لا فرق بين إدارة بائدة وأخرى آتية، والمراهنة على أي منهما هي كمن يستجير من الرمضاء بالنار. وعليه فإن العالم يستفيق اليوم على ولايات متحدة منقسمة أفقياً؛ سلاح في الشوارع، خطاب عنصري مقيت، عقوبات متنقلة وحصار يستهدف شعوباً ودولاً وأفراداً، وأساطيل تملأ البحار تغذي حروباً وتحمي ديكتاتوريات وترعى إرهاباً وتسمّنه حتى يحين موعد استخدامه؛ نظام إمبريالي متسلط ومستبد، يحاول رسم صورة العالم على مثاله.
زحمة جيوش وطائرات وبوارج وموفدين. غصّت طرقات بيروت بمواكب عربية وأممية وهي تجوب الشوارع، تعاين الأضرار وتُطلق التصريحات وتعلن المواقف. بين الصلافة والجلافة ودموع التماسيح كانت التصريحات تتوالى؛ ومَن غير الغرب لمثل حالات كهذه؟ لقد جاءنا مبكراً المفوض السامي الفرنسي والذي يشغل اليوم رتبة رئيس في بلاده؛ هو ذلك الذي يعاني ضائقة شعبية حدّ الاختناق، جاء ليخبرنا عن عقد اجتماعي جديد ومقدماً النصح والأوامر، يوبخ وينهى ويأمر، ومن على درج قصر الصنوبر المحتل منذ قرن من الزمن، راح بكشف حقيقة ما يريده، وبطريقه أظهر هشاشة منظومة سياسية حاكمة في "بلاد الأرز" وبحماية الغرب المستعمر الذي عمل على صنعها. لقد كشف عورتها وتبعيتها وضعف حيلتها، ولم يكن ينقص ذلك المشهد، إلّا بعض أسئلة من صحافة امتهنت التحريض والتضليل، حتى "الضيف"، المزهو بطاووسية مفتعلة، ضاق ذرعاً بها.
ثمة أمور في السياسة لا تحتمل الخيارات أو وجهات النظر؛ فظاهرها يفضح ما تحمله من نوايا مبيتة. هو مسار امتد لأكثر من قرن من الزمن، تواجهت فيه متناقضات كثيرة، جلها كان بين ضفتين متقابلتين يفصل بينهما واد سحيق، لا يلتقيا إلّا في ساحات القضايا وهموم البشر؛ رأسمالية إمبريالية متفلة بطبيعتها، يحكمها رأس المال ومصالح أصحابه، همها الربح ولو على حساب حياة الشعوب، سلوكها الهيمنة واستلاب مستقبل الدول وإمكاناتها.