هي نحن، تلك الجماعات التي تصطف يومياً لتقدم بعضاً منها ثمنَ بقائهم أحياء. هي غزة وفلسطين ولبنان وسوريا والعراق ومصر والأردن... وربما اللائحة ستطول. هي لعنة الجغرافيا ومصيبة التاريخ. هي أثمان الخيارات الخاطئة المتروكة منذ قرن من الزمن، حينما أطلّت "لوزيانا" من على سطح الماء فصُرعت بنار مشتبه في أصلها، فاستجلبت الدب الداشر من ما وراء بحر الظلمات إلى حقول أوروبا وسهوب الشرق الاوسط ورماله. فحرقت بلهيبها شعوباً ودولاً وعقولاً منذ قرن ونيف من الزمان. أقامت بيننا، تأمر وتنهي وتناصب العداء وتجمع الولاء.... أما آن لهذه "الوهنة" التاريخية أن تنتهي؟
فلسطين، هي المبتدأ والخبر. لم تعد ساحاتها تتسع لشيء. فهي امتلأتِ بالناس، بالمقاومين، بالشهداء، بالأسرى، بالمهجرين، بالجوع، بالغضب، بالثورة، بالحزن، بالدموع، بالدماء... بكل شيء. هي المعركة المفتوحة أبداً. هي المقتلة التي لا تشبع، وهي الكرامة. الجغرافيا تصغر أكثر وأكثر، لا أفق متروك للنظر إليه. مصيبتها أنها فلسطين، انتقاها القدر المقصود لتُقدّم هدية لغير مستحقيها، ففُتحت بها نيران القرن الماضي وبداية الحالي ولمّا تهدأ بعد. الجغرافيا تتلاشى والذكريات بدأت تُمحى من الذاكرة، ومفاتيح البيوت صدئت. ما المتاح؟ ما المقبول؟ ما المنتظر؟... هي نماذج لأسئلة كثيرة ومتشعبة، لكن لا أجوبة تُرتجى؛ جلّ المطروح هو "المنافي"، وليس في ذلك جديد، بل تكرار لما كان يجري منذ البدايات. القضية أصبحت على خطوط النهايات بسيرتها الحالية: لغات عديدة تناقش وضعها وتضع المخارج. ألسن كثيرة تقترح وفي البال مصلحة القاتل لا المقتول. هي جغرافيا ستضيق حدّ الاختناق. بعض من أهل الدار والأقرباء والجيران والأصدقاء والأعداء... يستلون سكاكين مصالحهم لينحروا أحلام أطفال بكروا في عمرهم فسقطوا شهداء قبل أن يملوا من ألعاب طفولتهم: ألوان قوس قزح المحببة لعيونهم التعبة ترسمها الطائرات ودويّ المدافع ونيرانها. كبروا قبل أوانهم وفهموا جيداً ما الذي يجري من حولهم بالرغم من تعدد اللغات، فالمصيبة بادية أمام أعينهم لا يغشيها غبار التدمير. يلهون بيومياتهم منتظرين الغد كي يكملوا. هنا الحكاية وهنا الأساس الذي يجب البناء عليه: هي قضية حق، إذن هي ملك لصاحب ذلك الحق.
ضاعت فلسطين أو كادت؛ سلطة منقسمة ولكل منطلقاته وقبلته التي يصلي عليها. التبست الولاء لكن من دون فعل. المصيبة بأن المرجّح اليوم والمتاح هو تصفيتها، وإنهاء هذا "الهمّ" المفتوح منذ قرن. ولكن الثمن ماذا سيكون؟ الشتات والاستعارة من الجيران، وهذا ما يُقّدم ويمكن القول بأنه جلّ ما يُقدّم، فالعدو يقدم نموذج حلّه للقضية: تصفية الشعب الفلسطيني بقتله وقتل أراضيه وتلويثها، ومن يتبقى أما عند الجار القريب أو منافي أفريقيا وسهوب أميركا الشمالية للإقامة الدائمة باسم جديد ولسان آخر وآمال وأحلام غير المتعودين عليها. هذا المتاح وهذا ما يُعمل عليه فهل من ناصر؟ أصحاب القضية، ربما لهم بعض "همّة"، لكن جلّ القرار أصبح من خارج الجغرافيا، يتنقل بين أصحاب التطبيع والمؤمنين بالسلام القائم على الذل والهزيمة. لم تستطع الحركة الوطنية الفلسطينية، بكل أطيافها وتلاوينها ومنطلقاتها، من أن تجترح فعلاً وطنياً فلسطينياً نابعاً بمبتدئه وخبره من مصلحة الشعب الفلسطيني ومن دون الدخول في لعبة الأنظمة ومصالحها. لقد انقسمت الثورة وتفرّق مطليقيها وحاروا بالاتجاهات فتاهوا بالولاءات. الحركة الوطنية الفلسطينية مطالبة بأن تمسك القضية من باب الحق قبل المصالح، وبذلك تبني على دمائها ركائز الحلّ الذي ما انفكت تضيق خياراته. العدو الصهيوني – المستفيد اليوم من أوسع طيف دعم دولي وإقليمي على مستوى الأنظمة – لن يفوّت الفرصة لحسم هذه "المأساة التاريخية" لمصلحة مشروع دولته، التي يشاهدها تتوسع بأسرع مما توقع. هذا واقع الجغرافيا المتغيرة في منطقتنا والتي هي مصيبتها، والتي لا بدّ من تساهم، حتى في صياغة التاريخ وإعادة سرديته وفق منطلقات ستكون جداً مختلفة. فهل ستُقلع الحركة الوطنية الفلسطينية عن عواصم التطبيع ومماشاة الأنظمة كي تفرض، أقله بعضاً من حلّ يكون لشعبنا الفلسطيني سهماً فيه؟
لبنان: هو البلد الذي ابتلي بمصيبتين، طبيعة النظام الحاكم فيه والجغرافيا. التركيب التأسيسي جاء ملتبساً وليس برضى بنيه. حكمته سايكس بيكو بمنطلقات تأسيس المنطقة، فكانت "الفرادة" هي الكذبة الأولى في هذا المجال. اختراع التاريخ وكتابته لا يكون لمصلحة اللحظة الآنية، بل بالعكس،؛ فالتاريخ هو الانعكاس الحقيقي والموضوعي للأحداث وهذا الغائب عن مناهجنا، وعندما قيل ذلك علّقنا كتابة التاريخ الموّحد، وأصبح لكل "قبيلة" لبنانية تاريخ وأبطال وحكايات ومواضيع وصولات وجولات وولاءات... تبني عليها وتقارب وتطالب. أمّا الجغرافيا، فأخذوها كما أُعطيت لهم من دون أخذ رأي أحد، لأن ما رسم كان قد رسم. سنتجاوز التاريخ المتناقل لعدم صدقيته، لكن من المؤكد بأن ما أُعطي للبنان هو ما يجب أن يكون عليه في منطقة التوترات المستدامة، ليست كرمى لذاك أو مكافأة لأحد. فتكوّين المنطقة وفق سايكس بيكو كان يحمل أسباب تفخيخها، نظراً للطبيعة التأسيسية كما للوظيفة، فوقع لبنان في الالتباس الوظيفي فتناقضت المنطلقات. فبين الضعف والقوة المجال واضح وكذلك الوظيفة. لقد دأبت الحالة المذهبية التي تحكم البلد منذ الاستقلال إلى إشاعة مناخ العجز عن المواجهة، وهنا تصبح القضية أخطر. لأن الهدف أسماع الجميع وبخاصة أصحاب المشروع الغربي بأصالة موقف أزلامهم في لبنان. في مراجعة للتاريخ المعلن والمخفي كانت ثمة اتصالات قد بدأت مع الكيان منذ التأسيس، وهنا نعود إلى أصل القصة. "سايكس بيكو" لم يكن لها وظيفة ألّا تأمين الحيّز المريح للكيان والذي هو تأمين المحيط الملائم، فجاءت تقسيماتها تتماشى مع المطلوب.
لبنان المتاخم لحدود القضية القومية ابتلي بنظام الملل وهذا كان مؤاتياً، إن بالدور أو بالتماثل. سوريا وزعت على خمس دويلات بعناوين مذهبية، صحيح أسقطها الشعب السوري بعد سنوات، إلّا أنها عادت اليوم لتُنفّذ وبالقوة بدعم إسرائيلي وبأدوات محلية. العراق سار على الخط نفسه وها هو مقسّم ومعطّل... ولكي لا نوّسع، فالصورة بائنة. التاريخ يتكرر على شكل مأساة بنيوية: لبنان الغارق دوماً في وحول التفاوض حول الماهية والدور والموقع... فالتراشق المفتوح على كل شيء من أطراف، لكل واحد منهم قبلته واتجاهه وولاءه... موزعين على أربع جهات الأرض، وهو الخارج من أتون معركة كبيرة ضاعت بوصلة خياراته؛ فبين الاستخدام المفرط لطبيعة الكيان المقسّمة والولاءات الخارجية المتناقضة عَلقت الصيغة السلطوية، ليُعاد تكوين الخطاب على مقاس الوظيفة وليس على مصالح البلد. "حروب الآخرين على أرضنا" هي مقولة تلجأ إليها فئات محددة عند كل محطة احتراب في المنطقة. لبنان لم يكن ساحة ولن يكون؛ لبنان الواقع في قلب الجغرافيا، المتاخمة لكل القضايا الكبرى، من الطبيعي أن يتأثر أو يكون له دوراً ورأياً، فهو من الذي ساهموا في إعادة تكوّين الرؤية الاستراتيجية للصراع المتواصل منذ قيام الكيان الصهيوني.
لبنان اليوم هو ملف أميركي. فمفاعيل ما بعد 18 شباط 2025 باتت واضحة: العدو واحتلال النقاط الخمس، والتي هي أرض لبنانية تُضاف إلى القديمة وإلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، والخروقات اليومية واعتداءاته... ولجنة المراقبة – المرؤوسة أميركياً – لا تتحرك، فما المطلوب إذن؟ هل بدأ مسار التطبيع؟ إن الكلام الأميركي عن مجموعات عمل مشتركة مع لبنان، لمعالجة قضايا خلافية على الحدود، هو مدخل لموضوع التطبيع: فإطلاق الأسرى والنقاط الخمس المحتلة وترسيم الحدود، يُضاف اليها كلام المبعوث الأميركي "ويتكوف"، والذي كان واضحاَ، حول المواضيع التي تخص لبنان وسوريا، يدلل بأن المطلوب اليوم هو أبعد من تنفيذ مندرجات اتفاق وقف إطلاق النار ليتعداه ويتجاوزه صوب اتفاقات أوسع وبمفاعيل سياسية أوضح. ويُضاف إلى كل ما تقدّم: هل يوجد من مَن في السلطة في لبنان يستطيع قول "لا" للأميركي؟
مأساة التاريخ
أمّا وقد أصبحنا على واقع كالذي نعيشه اليوم، فلا بدّ لنا من تحديد بعض ما يجب فعله: مقتلة ينفذها العدو. ساحاتها بلادنا العربية. ضحاياها الشعوب ومستقبلها. التاريخ يتكرر بشكل مأساوي وبتصاعد. لم تتوقف النكبات عن التتالي منذ أكثر من خمسة قرون. هيستيريا مستمرة لا تهدأ أو تستكين. شعوبنا تتوالد مع المصائب وتتآخى معها حدّ التماهي. الأفق مقفل والرؤية مغشية... القتل والتجويع والتهجير هو القائم ولا شيء يقف في دربه. هي مأساة وجلجلة ودروب الأحزان المتتابعة على أكثر من صعيد. شعوب أعياها القتل فتعودت، وآخاها الجوع فقبلت.
النداء 2025. حقوق المنادى فقط محفوظة.