عصر العبودية الحديثة...

... لكَم يغلبُ الأسى المشحون بالغضب على مشهدية العالم برمّته، لكم يغلب التوجّد والقلق. وقائع الكراهية تُغلِّب قوانين العبودية، تفضح سوداوية العقل الأبيض المأزوم، حتى لنكاد نُصدّق بتفوّقه وذكائه وعبقريته. عبقريةٌ تفتّقت عن أساليب مهينة من قرون الرِقِّ والاستبداد والعبودية، تجارة رائجة منذ العهود الأولى والأزمان لقيام الإمبراطوريات.. تلك التي تموت، وتسقط من الداخل، لظلمها وغطرستها وإجرامها.

تجارة الرقيق والحريم والأطفال، لم تُفرّق بين الأعراق.. لا لونَ للرقيق، تُهتَكُ الإنسانية بأبشع الصور، حضاراتٌ زائفةٌ تحفرُ في الوعي الجمعي الجرائمَ والكراهية، باختلاق فوارق إجتماعية للفصل بين الألوان، لتغليب الحليب على الشوكولا، على كوكتيل التنوّع اللاتيني والهنادرة، وكلّ أمم المعمورة، حيث الإحلال الاستيطاني القائم على الإبادة الجماعية من مشرق الأرض إلى مغربها.
والحديث عن العبودية، حديث يطول، يتضمّن عن توزيع الثروات، عن العمالة، عن الهجرة والمنافي، عن الحقوق والواجبات، عن إنسانية الإنسان، عن الأديان والأوطان والمعتقدات، عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة.

العبودية الحديثة. يُحكى عن إكتشاف العالم الجديد، كأنّما وجدَ المُستكشِف الأوروبي أرضاً مشاعاً على كوكبٍ آخر بلا سكان، الذين، أصحاب الأرض. هذا حال الأميركيتين، قارة أستراليا، فلسطين، هايتي التي اُبيد جميع أهلها الأصليين، عدا عن القضاء على الثقافة واللغة والحضارات والتراث العريق. يُحكى مع مدعاة اكتشاف العالم الجديد عن حاجة البريطانيين للعمالة، بحيث أن العمالة البيضاء لم تعُد تسدُّ الحاجة مع بناء المستوطنات الأولى في بلاد العم سام، أو بالأحرى بلاد الهنادرة، لذا تفتّق العقل البريطاني الشيطاني عن اختطاف واستجلاب آلاف الأفارقة من الذكور والإناث بطرق وحشية قلّ لها نظير، فيها من المرواغة والثعلبة والإغراء المادي لزعماء القبائل آنذاك بما لا يتصّوره عقل وحدث وتاريخ، هكذا هم في بلاد العُرب أوطاني تقسيماً وقتلاً وتشرذّما تحت عناوين محميات، وإحلال شُذّاذ الآفاق الصهاينة.. القلعة الغربية المتقدّمة في الشرق لمنع الأعراب من أن يكونوا عرباً حقيقيين.

يُحكى عن أول حراك وقع في تلك المستوطنات الأربع، إبّان سيطرة البريطانيين، قام بها العمال البيض والسود معاً، ممّا شكّل صدمة للعقل الشيطاني البريطاني الأبيض، ورويداً رويداً شرعوا في "غربلة تفكيك" الحليب عن الشوكولا، بمنح الأبيض المزيد والمزيد في الأجور والعطل والمكافآت، المزيد من الفوارق الطبقية الإجتماعية، شكّلت عنصرية أو طائفية أو مذهبية الرجل الأبيض ضدَّ السود. رحلة وجودية لثلاثة قرون، هي وصمة عار على شمس حضارة الغرب، حضارة الزيف التي أفلت عقدها الوجوديّ القائم على مبدأ الشركات الصناعية أو يكاد.. مع جائحة كورونا، مع انكشاف الديمقراطية الزائفة، مع سقوط عصر الأنوار، وتماثيل المستبدين، وتمثال الحرية الشهير، مجازاً لسقوط النظام العالمي المتسلّط تحت وقع كلمات الشهيد "جورج" فلويد.. لا أستطيع التنفّس.

يُحكى عن عبودية السجون الحديثة في الولايات المتحدة الأميركية، فضيحة العصر والقرن، عن السجون العامّة والخاصّة، سجون يُلقى فيها من السود والملّونين بلا جرمٍ اقترفوه خدمةً لشركات التصنيع، سخرة مجانية مقابل سنتات، سخرة قضت على عائلات بأكملها. يُحكى، كيف درجت الإدارات الأميركية المتعاقبة على نشر فوضى الحرمان في مجتمعات السود والملّونين بالمخدرات والخمرة والاهمال.. وغيرهم من مختلف الأعراق، من العرب والمسلمين، عدا عن سكان البلاد الأصليين.. هؤلاء، مَن يسمع عنهم أو يقرأ. يُحكى، أن القوانين المقدّمة للكونغرس الأميركي عبر تاريخهم السيء، وإدراجها ضدّ دول وشعوب العالم، لهو أسوأ عناوين الغطرسة والاستبداد والهيمنة والعنصرية، تتجسّد في الداخل والخارج، في العقل الأبيض المأزوم المريض. جورج فلويد، لحظة الحقيقة، من ذات الكأس الزؤام يشرب أعداء الإنسانية، لا يمكن فصل الحليب عن الشوكولا.. وقد خُلِقَ الإنسانُ في أحسن تقويم. آخر النكت الترامبية.. إتّهام ترامب إيران بأنّها وراء الحراك في الولايات المتحدة، وبأنّ مادورو وراء نشر فيروس كورونا، عجبي. إمبراطورية يكشف شكلها الهلامي، بأنّها مجرّد شركات معسكرة كما نشأت.

***

... جمرْ فوق الجراح، والروايات تتقيأ ما في أحشائها، إرهاصاتٌ تعيدُ تشكيلَ الإنكسارات، مشاهدُ مأزومة لا تنقصُها العورات، أبعادُها نُخَبُ الهزائمِ، أعراقُ الأرض على وشك الإنقراض، إفراطٌ في ضغط الدّم؛ وقد توقّفت مِضخاتُ الكونِ عن تزويدِ الكوكب الحيّ بما يرغب، وانقطع البثُّ المباشر عن الواقع، لأنّها الوقائع، والوقيعة قائمة في الإدراك والمناهج.

لذا، أجيالٌ متكلّسة، أحلامٌ مجهولة مكدّسة، والأطفال غادروا الملاعب، يتجسّدون في كهوفٍ أفواهٍ شبقة الزيادة في الوزن، يُرَجِّعونَ المراجع العليا.

لا كلمات، تفرُّ راغبةً عن البشر، عن الصفحات، عن الخُطبِ الرنّانة الموجِعة، لا شيءَ غير الخطوب، مرجعياتها فوق المحاسبة. يومٌ طويلٌ نفذَ منه الماءُ والوقود، الخيرُ والوجود، يومٌ أُمَميٌّ في مستوعب النَفايات، ربّما البداية أو النهاية بأيِّ وقت. القصة الحقيقية الوحيدة، البشر ليسوا بأفضل مُنتَجْ.