انتفاضة 17 أكتوبر أشعلت الساحات

"لبنان ينتفض" ليس مجرّد وسم حلّ في المرتبة الأولى على مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، بل هي ثورة فعلية انطلقت نواتها جرّاء تراكمات نضالية متعدّدة لمواجهة الطغمة الحاكمة وسياساتها الاقتصادية وبخاصّة الضرائبية المجحفة بحقّ الفقراء، بهدف تغيير هذه السلطة السياسية الحاكمة التي لا تستطيع إلاّ أن تكون سلطة محاصصة ومحسوبيات،وصولاً إلى بناء الدولة المدنية الديمقراطية والعلمانية.

فكانت شرارتها الأولى في التظاهرة الشعبية التي أقامها الحزب الشيوعي اللبناني في 16 كانون الأول 2018 تحت شعار "إلى الشارعللإنقاذ في مواجهة سياسات الانهيار".واستتبعها "الشيوعي" بتأليف "الحراك الشعبي للإنقاذ" ضمّ عدداً من القوى الوطنية والمدنية، نفّذ عدة تظاهرات وتحركات شعبية بعنوان "لا ثقة" رفضاً لمشروع موازنة 2019. ناهيك عن تحركات سابقة وأبرزها: حراك "هيئة التنسيق النقابية 2013" الذي نجحت أحزاب السلطة في ضربه، وحراك إسقاط النظام الطائفي 2011وحراك أزمة النفايات 2015الذي ما زال مستمراً في مجابهة سياسات السلطة بإنشاء مطامر ومحارق غير صحية فيها. إضافة إلى معركة "الشيوعي" في الانتخابات النيابية الماضية وإطلاقه البيان الوزاري البديل.
أما المعركة الثانية، فأطلقها "الحزب الشيوعي" في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بعنوان "لا إنقاذ من دون تغيير، ولا تغيير من دون مواجهة"، بهدف تغيير هذه السلطة السياسية المتمسكة بنمط اقتصادها الريعي الذي ثبت فشله يوماً بعد يوم، والذي تتحمّل السلطة مسؤوليته كاملة عبر حكوماتها ومجالسها النيابية المتعاقبة عمّا أوصلت إليه البلاد من الإنهيار المالي والنقدي، وألقت بنتائج سياساتها على عاتق الفئات الشعبية والعمالية وأصحاب الدخل المحدود،حيث باتت الهندسات المالية الخاصة لمصرف لبنان تساوي هندسة إفقار الناس وإغناء المصارف.
وترجمت المواجهة على الأرض عبر تحركات احتجاجية ومطلبية نفّذها قطاع الشباب الطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني؛ منها معركة الدفاع عن الجامعة اللبنانية ضدّ السياسات المتواصلة لضربها عبر خفض موازنتها، ثم اقتحام مقر الاتحاد العمالي العام (التابع للسلطة) تحت عنوان "تحرك النقابي الياس الهبر" في 11 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وصولاً إلى التحرك الاحتجاجي على مصرف لبنان المركزي وجمعية المصارف والسرايا الحكومية في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، للإضاءة على أن المسؤولين عن الوضع الاقتصادي المزري في لبنان يتمثّل بالثلاثي: المصارف والمصرف المركزي والسلطة السياسية، وهم المسؤولون عن تحويل الثروة من الناس، الفئة القليلة، طبقة الـ 1 %. وتمحورت مطالب هذه التحركات حول التحذير من الذهاب إلى الانهيار، والعمل على إنقاذ البلد عبر اتخاذ خطوات جذرية، وهي زيادة الضرائب على أرباح المصارف والفوائد والأرباح العقارية، وأن تتوقف الدولة عن دفع فوائد الدين العام للمصارف لمدة معينة، إذ أنها تدفع كلّ سنة ثلث إنفاقها للمصارف كخدمة للدين العام حيث يبلغ أكثر من 6 مليار دولار سنوياً.


الصراع طبقي
"الوطن للعمال، تسقط سلطة رأس المال"، "ثوّار، ثوّار، سنعبر"، "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"يسقط يسقط حكم المصرف"، "لا ثقة، استقيلوا" و"كلن يعني كلن"، بهذه الهتافات توحّد الشعب اللبناني بكافّة مكوّناته في طُرق وساحات الوطن وفي كلّ بلدان الاغتراب وعلى كلّ خطوط المواجهة، في الليل والنهار وللأسبوع الرابع على التوالي، احتجاجاً على سياسات الحكومة وتسريبات مقررات مشروع موازنة 2020، والتي ستفرض على فقراء الوطن لسدّ العجز المالي الذي أغرقت السلطة به البلد.
وها هي "انتفاضة 17 أكتوبر"، تدخل أسبوعها الرابع على التوالي وما زالت مستمرة، لتؤكد أن الشعب اللبناني عابر لمناطقه وطوائفه بكلّ مكوّناته على امتداد مساحة الوطن، توحّد في الشارع دفاعاً عن حقّه بالخبز والعلم والكرامة والحرية، فامتلأت الساحات بمليوني مواطن لمواجهة هذا النظام السياسي الطائفيوها هي الساحات غصّت بمواطنين يعقدون حلقات حوارية وندوات يومياً، ويطالبون بحقهم بالعمل، ضمان الشيخوخة، السكن، الضمان الصحي الاجتماعي، تعزيز التعليم الرسمي، البنى التحتية، وتأمين الكهرباء والماء والبيئة الصحيةوللنساء، في هذه التظاهرات، مطلب محق وهو منح الجنسية اللبنانية لأولادهن حتى أن الطلاب لقنوا في الساحات دروساً في التربية والوطنية والإصرار على استرجاع حقوقهم بتعليم نوعي، ومستقبل لائق.

سياسات القمع والبلطجة
أما محاولات السلطة للالتفاف على الانتفاضة الشعبية عبر إصدارها ما أسمته بـ "الورقة الإصلاحية" فباءت بالفشل، ورفضها الشعب ليثبت أنه أصبح أكثر وعياً، لا يمنح ثقته بعد اليوم لهذه السياسات ووعودها الزائفة.
أما التحوّل الأبرز في هذ الحراك برز في صموده بمناطق تسيطر عليها أحزاب السلطة، والتي عمدت إلى ترهيب المحتجين والاعتداء عليهم وتهديدهم (النبطية، بنت جبيل، صور، بيروت في ساحتي رياض الصلح والشهداء وجسر الرينغ)، ناهيك عن القمع الوحشي من قبل عناصر القوى الأمنية واعتقال عدد من المعتصمين سلمياً أقدموا على قطع الطرقات بأجسادهم.
أما ردّ المتظاهرين على هذه البلطجة فكان في تضاعف أعدادهم في الساحات وإصرارهم على مواصلة الانتفاضة الشعبية، إضافة إلى زيادة عزيمتهم بالتمسّك بمطالبهم وتصعيد التحرك بكلّ أشكال المواجهة وسُبلها، ضدّ هذه السلطة الغاشمة والمفلسة، والمعتدية على الحريات العامة للمواطنين، الساعية إلى إقامة دولة الفدراليات المذهبية.
أما محاولات تخوين المتظاهرين في بعض المناطق ولا سيّما الجنوب ووصف تحركهم أنّه في وجه المقاومة، ردّ عليها الشيوعيون حينها "أن واجب تحرير الوطن من هذا النظام ومواجهة سياسات الهدر والفساد والنهب والمحسوبيات هو فعل مقاوم أيضاً، لأن " التحرير والتغيير لا ينفصلان وهما مقاومة".

النصر الأول والانتصارات المرتقبة
أما خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي ترافق مع هجوم لأنصاره على اعتصام ساحة رياض الصلح، فهو أيضاً لم يُرهب المعتصمين حتى في تهديده المبطن بـ "اللاءات الثلاثة": "لا نقبل بتقصير الولاية الرئاسيةولا نوافق على استقالة الحكومةولا نقبل بانتخابات نيابية مبكرة".
وتكلّل اليوم الثالث عشر من الانتفاضة بتحقيق النصر الأول وهو إعلان سعد الحريري استقالة حكومته، والذي اعتبرها "الشيوعي" في بيانه الأخير أنها "الخطوة الأولى لإسقاط كلّ منظومة السلطة مجتمعة، المسؤولة عن الأوضاع التي وصلت إليها البلاد، بفضل سياساتها المتبعة. فالمشكلة الأساس تكمن في الطبيعة السياسية للنظام الطائفي الحاكم وفي رموزه الممسكين به؛ فهو نظام التبعية السياسية والارتهان إلى الخارج، والمنحاز لسلطة رأس المال والمستجيب لمتطلباتها"، معلناً رفضه "مصادرة الانتفاضة الوطنية وسرقتها لمصلحة سلطة مأزومة وعاجزة، من خلال إعادة شدّ العصبيات المذهبية والانقسامات الطائفيةالتي، ولأول مرة، تمكّنت الانتفاضة الشعبية من تجاوزها".
وأكد البيان على أن "الشعب اللبناني قال كلمته، لا شرعية لمنظومتكم السياسية، كفى تلاعباً على وتر الانقسام الطائفي وتوتير الشوارع من خلال المسيرات المذهبية والفئوية، هكذا فعلتم منذ الطائف وحتى اليوم، تحمّلوا نتائج أفعالكم واستقيلوا"، داعياً إلى أن تبقى "ساحات الاعتراض قائمة ويقظة من أي محاولة لإجهاض ما تحقق ولمنع أي محاولة لتوتير الأجواء المذهبية مجدّداً لتوظيفها في حفلة الجنون الطائفية التي تبرع قوى السلطة في اللعب عليها".
إلّا أن استقالة الحكومة، كانت المطلب الأول للحراك، الذي يصرّ على استكمال المواجهة تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، عبر تشكيل حكومة وطنية انتقالية من خارج المنظومة السلطوية الحالية، وذات صلاحيات استثنائية وتكون مهمتها: إجراء انتخابات نيابية مبكرة خارج القيد الطائفي، استناداً إلى الدستور اللبناني (المادة 22)، واتخاذ كلّ الإجراءات المطلوبة لاستعادة المال العام المنهوب، ورفع السرية المصرفية عن كلّ الذين تولّوا مسؤولية الشأن العام، ومساءلة الذين استفادوا عن غير حقّ من الهندسات المالية، إلى جانب الذين تراكمت ملفاتهم في خزائن النيابة العامة المالية، وإسقاط بنود "سيدر" ومندرجاته، من قرارات خصخصة كلّ مؤسسات الدولة من كهرباء واتصالات ومنشآت نفطية، فضلاً عن كازينو لبنان والريجي وشركة طيران الشرق الأوسط وعن بيع عقارات الدولة والخطط المبيّتة لتقاسم ثروات النفط والغاز، وصولاً إلى وضع نظام ضريبي تصاعدي جديد يطال الأرباح الرأسمالية والفوائد والريوع والثروة.

مستمرون
نعم، مستمرون، ثورتنا مستمرة في وجه سياسات الثورة المضادة الفاشلة. وسنبقى في الساحات حتى إسقاط هذه السلطة السياسية التي أوصلت البلاد إلى الإنهيار المالي والنقدي، عبر حكوماتها ومجالسها النيابية المتعاقبة، والتي ترفض أن تتحمّل المسؤولية وتستقيل؛ فهي تعترف بفشلها ولكنها لا تستقيل، متجاهلة نزول مليوني لبناني إلى الشوارع.
مستمرون لأن ورقتهم الإصلاحية خالية من الإصلاح ولم تقنعنا. وأيضاً استخدام القمع والترهيب والتهديد واستخدام القوة ضدّ المتظاهرين لم يرهبنا. أما رهانهم على كسب الوقت لتأليب الرأي العام ضدّ الانتفاضة بأساليب مختلفة، عبر تصوير الأمور وكأن الانتفاضة هي التي تسبّب الإنهيار والفوضى وتعطيل الحياة الطبيعية في البلاد، فهو فاشل أيضاً.
لنا الساحات وانتفاضتنا إلى التصعيد والتنظيم أكثر نحو تشكيل لجان عمل مشتركة تكون مشروعاً ثورياً لغدٍ أفضل، لبناء دولة وطنية ديمقراطية.
نعم، "الشعب أراد فاستطاع"وهو الخط الأحمر. وهذه المرة لن تنفع معه سياسة الالتفاف والوعود أو المماطلة.