كانت الانتفاضة الشعبية العراقية، بكل بساطة، مواجهة مكشوفة بين الفقراء والمهمشين والمعطّلين عن العمل من جانب، والمتخمين القابضين على السلطة ومحتكري ثراوتها من جانب آخر. فعراق ما بعد صدام حسين أولى التمثيل العرقي الطائفي على مؤسسات الدولة التي تدهورت بعدما ملأت الانتهاكات نظام تقاسم الإيرادات- المحسوبية. وفي غياب سياسة اقتصادية فعالة، نشأت حلقة مفرغة: فالأحزاب التي نجحت في المشاركة في الحكومة في انتخابات سابقة استخدمت سلطتها لمنح الوظائف والعقود لمؤيديها، بهدف تأمين الأصوات في الانتخابات التي أعقبتها. وفي الوقت نفسه، تمركزت الثروة متركّزة داخل الحكومة - فصادرات العراق الرئيسية الوحيدة هي النفط، الذي يمثّل 92 في المئة من الميزانية.
واستفاد من النظام الجديد مناصرو الاحزاب الحاكمة، في حين تراجعت الخدمات والوظائف لباقي السكان. وإذا نظرنا إلى موازنة عام 2019 البالغة 111.8 مليار دولار، والتي تمثّل زيادةً بنسبة 45 في المئة عن العام 2018، فإن أكثر من نصفها سيذهب إلى أجور القطاع العام والمعاشات التقاعدية، ممّا سيقوّض الإنفاق الاستثماري غير النفطي اللازم لتطوير القطاع الخاص. وبعد تعاقب مثل هذه الحكومات منذ عام 2003، يبدو أن النظام قد اتخذ مساره. فثمة الكثير من الوظائف الحكومية سبق وأن جعلت القطاع العام في العراق من بين الأكثر تضخماً في العالم.
وبما أنّ الطائفية والديمقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان، فإن النظام الديمقراطي الذي كان يتوخّاه العراقيون انهار بدوره وافقد الناس ثقتهم بالطبقة السياسية التي تدير البلاد، وهكذا صار واحدٌ فقط من بين خمسة عراقيين يعتقد أن بلاده ما زالت ديمقراطية. ونتيجة لذلك، انخفضت نسبة إقبال الناخبين على التصويت بشكل مطّرد، من 80 في المئة عام 2005 إلى 44.5 في المئة عام 2018، في حين صارت الاحتجاجات قضايا موسمية.
وعلى غرار أسلافه، يركّز رئيس الوزراء بشكل أكبر على تحديد أولئك الذين يقع عليه اللوم على الاحتجاجات بدلاً من إصلاح المشاكل التي أثارت هذه الاحتجاجات. ولإخفاء عجزها عن إيجاد الحل لجأت الحكومة ومكوّناتها المتنوعة إلى نظريتيْ مؤامرة متناقضتين: تتّهم إحداهما السعودية والولايات المتحدة بإثارة الاحتجاجات، وتلقي الأخرى اللوم على إيران وعملائها المحليين. ومثل هذا الارتياب لن يؤدي سوى إلى عرقلة جهود عادل عبد المهدي لتنفيذ الإصلاحات الجادة التي يطالب بها المنتفضون.
ما يجري في العراق، شبيه بما جرى في عواصم عربية أخرى، وبالتالي، قد تلجأ قوى أو دول لاستثماره، وهذا أمر يشكّل خطراً على الحراك وشعاراته وأهدافه، لكنه لا يعني بالضرورة أن الأميركيين هم الذين يحركون الشارع العراقي أو أنّ كل المتظاهرين هم "مخربون" أو "مندسون" أو يأتمرون بأوامر سفارات المنطقة الخضراء، وفق الرائج في الإعلام العراقي الموالي للحكومة.
الأزمة في العراق بنيوية وموروثة وعمرها عشرات العقود من الزمن، لكنها لا تبرر لأحد الترحم على نظام صدام حسين الذي لم يُعِد العراق بل الوضع العربي برمّته عقوداً من الزمن إلى الوراء، وبالتالي، من مصلحة القوى السياسية العراقية أن تتبنّى الحراك لتصحيح أهدافه ومنع بعض رموز النظام القديم من محاولة الإستثمار وإعادة عجلات الزمن إلى الوراء.
يشكل العراق اليوم ساحة الاشتباك الأساسية بين إيران والأميركيين. ما يجري في الساحات الأخرى مثل سوريا واليمن ولبنان، لا يحجب حقيقة أن المعركة الأساس هي على أرض العراق، وحسناً فعل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بقراره عدم حصر تحالفات بلاده بين محوري واشنطن وطهران، بل هو ذهب للتنويع عبر الانفتاح على الروس والصينيين. وهي خطوة أدت إلى استفزاز الأميركيين وانزعاجهم، لكنها لا تعني أن الرجل يتعرض لمحاولة اغتيال سياسية من الأميركيين، خصوصاً في ظل انتفاء البديل، من جهة، واحتمال أن يأتي خيار أكثر إيرانية من عادل عبد المهدي في حال سقوطه، من جهة ثانية، وهو أمر يدركه أغلب المراقبين للمشهد العراقي.
القضية لم تعُد اقتصادية فقط، فالمطالب الآن ترفض النظام البرلماني الطائفي، وتريد نظاماً رئاسيّاً وطنيّاً، أو برلمانيّاً وطنيّاً. وهناك مطالب سيادية، تستهدف إنهاء الهيمنة الخارجية على العراق. وهذه الاحتجاجات ليست الأولى. وما لم تبطل الحكومة نهجها القاسي، ستشتد الاحتجاجات وإذا خمدت قد تتجدد بعد فترة بمضمون أكثر تطرّفاً، مع تداعيات مقلقة محتملة داخل البلاد وخارجها. وهكذا لا بديل عن إنهاء حاضنة المحاصصة والفساد والتمايز الاجتماعي والطبقي الصارخ، المتمثلة بالنظام السياسي القائم ورموزه، إنهائها عبر تغيير جذري مطلوب لتحقيق بديل الدولة المدنية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.