تحديات الصين في عامها السبعين

قبل سبعين عاماً، كان المستعمر البريطاني يكتب على مداخل الحدائق العامة في مدينة شنغهاي التي كان يحتلها: "لا يدخلها الكلاب والصينيون".
قبل سبعين عاماً، ومن على شرفة أحد قصور المدينة التي كانت محرمة على الشعب، والمطلة على ساحة تيان آن مين في بكين، أعلن الزعيم ماو تسي تونغ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، قائلاً "من أجل تحقيق حلم عظيم، يجب خوض نضال عظيم".

لم تكن رحلة بناء الصين الحديثة نزهة ممتعة. فبعد نضال شاق، واجه خلاله الحزب الشيوعي الصيني الامبريالات المحتلة لأرضه وخاصة الاحتلال الياباني، ومن ثم أجهز على عملاء الداخل الذين انحصرت سيطرتهم من ذلك الوقت في جزيرة تايوان. بعد هذه المهام الشاقة جداًّ، وملايين الشهداء الذين سقطوا من أجل إنجازها، بدأت عملية البناء. ومن المعروف أنّ بدايات هذه العملية تمت بتعاون قل نظيره بين الأحزاب الشيوعية في العالم والشعب الصيني، حيث أن معظم هذه الأحزاب، وفي مقدمتهم الشيوعي السوفياتي، أرسلت آلاف المستشارين للمساهمة في بناء الصين، وخاصة في فترة قيادة ستالين للاتحاد السوفياتي. ولا تزال إلى اليوم الكثير من المنشآت الحية داخل الصين تشهد على هذا التعاون، إلّا أن هذه التجربة سرعان ما انتهت بعد الخلاف الذي وقع بين القيادة الصينية والقيادة الجديدة في الاتحاد السوفياتي بعد ستالين (خروتشوف).
تتحدث الكثير من الكتب التي كتبها معاصرون لتجربة البناء عن الاندفاع الاستثنائي للشعب الصيني، حيث أنّهم تمكّنوا، بأدوات متخلفة وامكانات تقنية شبه معدومة، من بناء دولة سرعان ما أصبحت لاعباً أساسيّاً على الساحة الدولية. وسرعان ما حققت أيضاً إنجازات تقنية وعلمية مهمة (نتحدث عن فترة ما قبل 1975).
الشوط الأخير من الرحلة هو الأصعب
في مقاله الاخير في مجلة الطريق، يقدم الراحل سمير أمين رأياً شاملاً حول بعض التحديات التي تواجهها الصين اليوم. السؤال الأساسي الذي عنون به بحثه يقول: "هل ينبغي على الصين الانخراط في العولمة المالية؟". وبعد الاستفاضة في شرح تركيبة العولمة المالية، ومن يسيطر على هذا الملعب الأخير للثالوث الامبريالي (الولايات المتحدة، أوروبا، واليابان). يجزم أمين بأنّ أي مخططات من نوع توسيع الانفتاح الذي سارت وتسير به الصين منذ أربعين عاماً ليشمل القطاع المالي، سوف يجعلها تعاني من تدمير هائل ونهب لثرواتها.
لذا، فإن التحدي الأساسي أمام الصين، هو الحفاظ على الاستقلالية المالية التي امتازت بها خلال كل فترة البناء السابقة. فالجذر الحقيقي للحرب التي تشنها الولايات المتحدة على الصين يكمن هنا. حيث أن دخول الصين في اللعبة المالية العالمية التي تتحكم بكامل مفاصلها الولايات المتحدة، وخاصة من خلال سيادة الدولار على كل ما عداه من عملات أخرى، سيفرض قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوبات خانقة على الدول مع حرمان هذه الدول من إمكانية المقاومة. فبمجرد دخول الصين ستصبح واحدة من هذه الدول، التي يمكن اسقاطها بالضربة المالية القاضية. لذا فإن الصين أمام التحدي التاريخي الكبير في مسيرتها، فإما الانزلاق إلى مقولات ظاهرها إصلاحي وباطنها تدميري يجعل من الصين مجرد دولة تابعة. وإما الاستمرار بالتحدي والمواجهة.
إنّ كل ما تشهده الصين اليوم من هجوم من قبل "دول الثالوث"، يهدف إلى دفع الصين للدخول في هذه المنظومة المالية المعولمة، وبالتالي التخلي عن استقلالها المالي. وفي هذا الإطار يمكن قراءة الحرب التجارية، وكذلك تحريك الملفات الداخلية للصين. ولكن هذه الأمور بالطبع ليست تفاصيل بسيطة. فإن كان الاستقلال المالي للصين يحميها من العقوبات التجارية، حيث يمكنها ذلك من فرض عقوبات مماثلة بالمقابل، مع ضرب قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوبات مالية عليها، وإن فُرضت يبقى تأثيرها محدوداً جدّاً.
إنّ تحدي الحفاظ على وحدة الصين كدولة ومجتمع، هو أمر في غاية الأهمية والجدية. إذ أنّ هونج كونج مثلا، التي تشهد أحداثاً منذ عدة أشهر، تحكمها صيغة ما يعرف بـ "دولة واحدة ونظاميْن". فمنذ عودة هذه المدينة إلى الصين سنة 1997 بعد أكثر من مئة عام من الاحتلال البريطاني المباشر، تم تكريس هذه الصيغة لإدارة شؤون هذه المدينة، إلّا أنّها لطالما شهدت محاولات لزعزعة استقرارها. وقطعاً فإن القوى الاستعمارية وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا هي من تغزي هذه التحركات. ولكن المشكلة هي في أن هونغ كونغ ليست سوى نموذج بسيط في هذه الحرب التي امتهنت الولايات المتحدة فرضها على خصومها، ونعني بذلك حروب التفتيت. لذا فإن الولايات المتحدة لن توفر جهداً من أجل ضرب وحدة الصين، وتحويل التنوع الموجود اليوم (يوجد في الصين 56 أقلية قومية) من عامل غنى وقوة إلى عامل ضعف وتفتت. خاصة في الأقاليم التي تشهد تاريخيّاً تدخلاتٍ أجنبية ومحاولاتٍ لتحريضها على الانفصال. ومنها التيبت التي يحظى الزعيم الروحي لها بدعم أميركي كبير. وكذلك مقاطعة شنجيانغ ذات الأكثرية المسلمة (الأكثرية من قومية الإيغور) والتي ينشط فيها ما نعرفه نحن العرب بـ"الحزب الاسلامي التركستاني"، والذي يعتمد إرهابيوه محافظة إدلب وخاصة منطقة جسر الشغور مركزاً لهم في سوريا. والجدير ذكره هنا، أنّ البيت الأبيض الأميركي عيّن مؤخراً امرأة من أصول إيغورية كمسؤولة عن الملف الصيني في إدارته، وهذا يعتبر تأكيداً على أن الولايات المتحدة ماضية في مخططاتها العدوانية تجاه وحدة الصين.
لم تصل الصين إلى موقعها الحالي إلّا بالتخطيط والقتال. ولن تكمل طريقها إلّا بهذا النهج. أما غير ذلك، فهو الانهيار.

 

  • العدد رقم: 365
`


أدهم السيد