ما هو الواقع اليوم؟ اليوم نلاحظ في هذه البلديات عديد الفضاءات الفارغة تتبعثر عليها أطلال منازل أو مصانع مهجورة بجدران متشققة أو منهارة، وكأن هذه المناطق تعرضت لقصف ما أو وقعت فيها حرب. وبالفعل تمثل هذه الفضاءات المهجورة وهذه المؤسسات الوطنية المحطمة نتيجة حرب طبقية شرسة على الطبقة العمالية الجزائرية وعلى سكان هذه الأحياء من الطبقتين المتوسطة والكادحة، حرب تشنها منذ 20 سنة المجموعة الاجتماعية الحاكمة والمسيطرة سياسيا واقتصاديا، وهي تتكون من البورجوازية النيوكولونيالية (العميلة) والطغمة المالية المحليتين.
لا نبالغ إن قلنا أن كل هذا التخريب للذاكرة الجماعية والعمالية في بلديات حسين داي وبلوزداد والحراش الشعبية تخريب عمدي وممنهج وسنشرح لماذا. لقد أدت أشغال تهيئة ترامواي الجزائر بشارع طرابلس بحسين داي إلى إغلاق عديد التجار الصغار والمتوسطين لمحلاتهم وحوانيتهم وبالتالي إلى قتل الحيوية الشعبية للشارع (كان فضاءا كبيرا للتنزه وللتسوق بالنسبة للطبقتين المتوسطة والعمالية) وضرب القلب النابض للحياة التجارية ببلدية حسين داي. والسلطات الرسمية، برئاسة الرئيس السابق والمتنحى بوتفليقة، هي من قررت وسطرت لهذا التخريب الممنهج في البلديات الشعبية فتعدمت في عدم الأمر بترميم منازل وعمارات قديمة تسكنها الطبقة الكادحة (جزء كبيرمنهم أبناء وبنات عمال وموظفين في المؤسسات العمومية) حتى تنهار أو دمّرتها وهدمت كذلك حوانيت للتجار الصغار وورشات عمل (كما حدث في حي الرويسو بهدم عمارات ومنازل وتدمير منشآت المؤسسة العمومية للمذابح الكبيرة بالعاصمة، مطلع سنة 2019 لكي يتم بناء مبان رسمية مكانها) ثم رحّلت (بالأحرى أن نقول هجّرت، باستخدام عنف قوات الشرطة) السكان إلى مناطق نائية في ولاية الجزائر تفتقر للمرافق العمومية. كما أغلق أصحاب القرار مؤسسات عمومية كبيرة كالسّمباك (المؤسسة الوطنية للمطاح وصناعة السميد والعجائن الغذائية) في بدلية حسين داي ووحدتها ببلدية الحراش ومؤخّرا أمرت بتدمير المصنع العمومي لتحويل الخشب وصناعة المنازل الخشبية الجاهزة، في حي شولي بحسين داي، مطلع هذه السنة وما تلا ذلك من تسريح للعمال وإعطاءهم تعويضات مالية. في بلدية الحراش نجد نفس المنظر: في حي لاغْلاسْيار حطام مصانع وطنية منهارة كالشركة العمومية للهيدروليك وفي شارع الجزائر وضواحيه أطلال الشركة الوطنية لصناعة البلاط والشركة الوطنية لصناعة الورق ومباني منهارة كان يسكنها العمال وعائلاتهم وأخرى هشة ومهددة بالانهيار على ساكنيها من الطبقات الشعبية. وكذلك نفس المشهد في أحياء الحامة وسرفانتس ببلدية بلوزداد.
أغلب الشركات العمومية أفلست وأُغلقت أو تعاني حاليا من الاختناق (كالشركة الوطنية للصناعة الكهرومنزلية) نظرا للمنافسة غير المشروعة وغير النزيهة مع كبار العلامات التابعة للشركات متعددة الجنسيات بسبب اقتصاد السوق الذي تبناه أصحاب القرار السابقون في بداية هذا القرن والذي لا يزال يتبناه اليوم المسؤولون الجدد. نتج عن هذه السياسة الكارثية فقدان شبه تام لسيادتنا الاقتصادية الوطنية وإغراق بلدنا في حالة تبعية لاقتصادات القوى العالمية الكبرى. نستورد تقريبا كل شيء (من أثاث وأواني ومركبات مثلا) حتى أبسط الأشياء كمماسك الورق وعود الكبريت بعدما كنا نصنعها إذ كنا نمتلك صناعة وطنية ثقيلة وخفيفة مزدهرة وذات جودة في السبعينات وبداية ثمانينات القرن العشرين. كانت الدولة الجزائرية آنذاك تملك قيادة وطنية ثورية تسير على النهج الاشتراكي وعلى سياسة تنمية اقتصادية مرتكزة على الذات ومتحررة من التبعية إلى حد بعيد.
الملاحظ إذن أن كل هذا التخريب والتدمير الكامل للتراث الاقتصادي الوطني وللذاكرة الشعبية لأماكن وأحياء عمالية سببه السياسات النيوليبرالية واستمرار الانفتاح على السوق الحرة التي انتهجها نظام بوتفليقة منذ ترأسه البلد قبل 20 سنة والذي شجع على تكوين طبقة من الأوليغارشيين (الأغنياء الجدد أو بعبارة أخرى السرّاقين) ومن بورجوازيين عملاء (كـبارونات الاستيراد وممثلي كبار العلامات التجارية الأجنبية والمتعددة الجنسيات، الامبريالية بطبعها) على حطام وأنقاض المؤسسات الوطنية العمومية المغلقة. ما الغاية من إغلاق مصنع وطني عمومي في بلدية شعبية؟ الغاية هي تدمير مكان يكوّن فيه العامل وعيه الطبقي ويتعلم فيه آليات الصراع الطبقي من جهة، ودفن الذاكرة الصناعية والعمالية للحي ومحو هويته الشعبية وتغيير هوية المكان الاجتماعية والطبقية، من جهة أخرى. ثم ما الهدف من قرار السلطات الرسمية غلق أو تدمير مؤسسات وطنية عمومية؟ الهدف هو مواصلة تحطيم الاقتصاد الوطني أولا وجعل أنقاض تلك المؤسسات مصدر ربح لكبار المضاربين العقاريين (مافيا العقار) أو خوصصة تلك المصانع ومنحها بالدينار الرمزي لشركات متعددة الجنسيات أو لكبار رجال الأعمال المحليين والقريبين من أصحاب القرار. الهدف هو البناء مكانها فنادق ومراكز تسوق كبيرة تحتضن محلات العلامات العالمية ومراكز أعمال ضخمة (وهو ما يجري مثلا في بلدية بلوزداد) ومقرات لبنوك أجنبية أو إقامات سكن خاصة وفخمة. ومن سيسكن تلك الإقامات هم كبار المناجارات في المؤسسات الخاصة (محلية وأجنبية) والبنوك الأجنبية، كبار رجال الأعمال المحليين، كبار التجار المحليين. أي الهدف من عملية التخريب العمراني هذه، التي يزوّقها الخطاب الرسمي بمصطلح “إعادة التهيئة العمرانية” أو ” أشغال تجميل الحي”، هو استقدام أعضاء التيار الليبرالي الجديد (الطغمة المالية والبورجوازية العميلة) وممثّليه بالأحياء الشعبية (العمالية سابقا) والطرد التدريجي لسكانها المنتمين إلى الطبقتين المتوسطة والكادحة. فهذه العملية تعدو بالتالي عملية استيلاء الطبقة المستغِلة على الفضاءات السكنية للطبقات الشعبية المستغَلة، القريبة من وسط المدينة وتترجم إرادة الطبقة الحاكمة فعليّا (البورجوازيون العملاء وكبار أرباب المال والأعمال، بالإضافة إلى أنصار التيار النيوليبرالي داخل أجهزة الدولة) في تهجير وإقصاء عائلات الطبقة الكادحة من وسط المدينة وضواحيها وتجريدهم من حقهم في العيش في حومتهم العزيزة بالقرب من وسط المدينة لأنها (الطبقة الحاكمة) تعتبرهم "حثالة"، "همج" ، "غير متحضرين" وتدرك في قرارة نفسها، أنها ظالمة وغير شعبية وأنّ ثروتها مبنية على سرقة الأموال العمومية واستغلال العمّال، ولأنهم (أبناء الطبقات الشعبية) يتواجدون بالقرب من المباني الرسمية وهم يقفون في مقدمة حركات الاحتجاج الاجتماعي على الظلم ويعارضون الطبقة المستغِلّة والقامعة وسياسات التفقير التي تنتهجها.
توجد نقطة مهمة يجب الإشارة إليها وهي أنه كلما انهارت عمارة أو دار في حي شعبي بالعاصمة، نلاحظ غياب مشروع لدى السلطات المحلية لبناء سكن وظيفي أو اجتماعي مكان البناية المنهارة يستفيد منه أبناء الحي من الطبقات الشعبية الذين يعيشون في الضيق، فيتم بيع أو منح الفضاء للخواص أو لمضاربين عقاريين أو تحويله إمّا إلى مستودع وإما إلى ساحة لعب. السبب هو أن سياسة العمران الرسمية في الجزائر لم تعد تمنح للمواطنيين، منذ بداية التسعينات، سكن اجتماعي داخل وسط المدينة أو في محيطها المباشر. والشركات العمومية لم تعد تمنح سكن وظيفي لعمالها. كل هذا الوضع ناتج عن سياسة اقتصاد السوق الحر التي ينتهجها أصحاب القرار في البلد.
يجب أن نشير إلى أن أغلب سكان الأحياء الشعبية والعمالية التي ذكرناها لا يريدون مغادرة حيهم طوعا وهم غالبا ما يحنون إليه، لأنهم متعلقون به عاطفيا وكوّنوا فيه ذاكرة عائلية وجماعية ومكانية وتربط بينهم أواصل تضامن وتعاون قوية، هي أواصل الحومة (الحي) بحكم انتماءهم إلى فضاء واحد. وعندما يقرر المسؤولون ترحيل أبناء حي كامل وبعثرتهم في مختلف أطراف الجزائر العاصمة، فالنتيجة تكون فقدان أبناء الحي لمعالمهم القديمة وتمزيق علاقة التضامن القوية. وهذا ما يخدم بالذات مصالح التيار النيوليبرالي الحاكم في الجزائر، إذ إن النيوليبرالية، هي في جوهرها، برنامج تدمير الجماعات القادرة على مقاومة جشع وأنانية منطق اقتصاد السوق.
جدير بالذكر أن عملية هدم وتخريب أحياء شعبية وعمّالية تاريخية ومصانع عمومية وطنية وترحيل سكانها أو طردهم إلى أطراف المدينة، من ناحية، وقدوم أصحاب المداخيل الكبيرة في هذه الأحياء للسكن في إقامات فخمة جديدة (ويمكن أن نسمي هذه العملية بَرْجَزَة) تحدث كذلك في مدن أخرى في الوطن (كحي سيدي الهواري في وهران) وفي العالم كحي سان لوراندزو San Lorenzo في روما وفي طارلاباشي Tarlabaşı بإسطنبول والأحياء الشعبية التي كان يسكنها السود في سان فرانسيسكو، بالولايات المتحدة الأمريكية، أو الأحياء الشعبية في عاصمة التْشيلي، بأمريكا الجنوبية. هذا على سبيل المثال لا الحصر. المسألة مسألة طبقية بامتياز ومسألة عنف طبقي. هكذا يمكن أن نفهم أن الحراك الوطني الشعبي الجزائري في العام الماضي جاء كردة فعل قوية من السكان المهجّرين والمرحّلين والعمال والبطالين والأعداد الكبيرة من الشبان الذين لا يملكون عملا ثابتا على عنف السياسات النيوليبرالية التي خرّبت قطاع الخدمات الاجتماعية العمومية كالصحة والتربية وأفقرت عديد المواطنين وضربت القدرة الشرائية للعمال من الطبقتين المتوسطة والكادحة وجعلتهم يعيشون في حالة اجتماعية صعبة تزداد هشاشة أو تقف على حافتها.
ملاحظة الكاتب: هذه المقالة هي ثمرة تحقيق ميداني شخصي في الأحياء الشعبية والمناطق الصناعية العاصمية منذ قرابة خمس سنوات بالإضافة إلى حوارات مع أشخاص لا يزالون يسكنون هذه الأحياء أو تم ترحيليهم منها. ويرتكز التحقيق نظريا على كتاب رشيد سيدي بومدين (عالم جزائري في سوسيولوجيا العمران) Bétonvilles contre Bidonvilles (منشورات أبيك، الجزائر، 2016) وعلى مقالة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في 1998 Pierre Bourdieu, Qu’est-ce que le Néolibéralisme وعلى كتاب الجغرافي الأمريكي دايفيد هارفي ( David Harvey, Géographie de la domination, éditions Amsterdam, Paris, 2018)