يقول الكاتب أنّ المسيحيين العرب اتصلوا بأوروبا بواسطة مدارس الإرساليات الأجنبية والتجارة الخارجية، بالأخصّ في لبنان وحلب. فبرز فريق من المثقّفين من الطوائف المسيحية "وعوا عالم أوروبا الجديدة بل اعتبروا أنفسهم، بمعنى من المعاني، جزءاً منه".
وكان المسلمون العرب المثقّفون يعالجون مسألة لحاق العرب بركب الحضارة ومجاراة أوروبا في تطوّرها على كلّ الصّعد، فكان السؤال: "كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءاً من العالم الحديث، دون أن يتخلّوا عن دينهم؟".
وقد هدفت إصلاحات 1839 و1856 التي تبنّتها السلطنة العثمانية بضغط من الدول الاوروبية إلى تحويل السلطنة "إلى دولة علمانية على غرار دول أوروبا".
ويتبيّن ممّا يلي دور اللبنانيين في عصر النهضة بحسب ما أورد الكاتب:
ناصيف اليازجي (1800 – 1871)
لبناني مسيحي وأوّل أستاذ كبير للعربية. عمل في خدمة الأمير بشير الشهابي، ثمّ انصرف لتدريس اللغة العربية، لكنّه "قصر اهتمامه باللغة العربية على أسلوب التعبير الأدبي" واهتمّ تلاميذه "بجعل اللغة العربية أداة صالحة للتعبير عن الحياة والأفكار في العالم الحديث".
فارس الشدياق (1804 – 1887)
“كان أوّل كاتب لبناني حظي بالشهرة والنفوذ" من عائلة مارونية عريقة، شقيق المؤرّخ طنّوس. كان والده وشقيقه طنّوس في خدمة الأمراء الشهابيين. "أمر البطريرك الماروني بسجن (...) أسعد (شقيق فارس) وبإعدامه ، لاعتناقه البروتسطنتية يوم كان يشتغل بتدريس المرسلين الأميركان اللغة العربية" ممّا دفع بفارس "إلى الضرب في الآفاق". ويبدو أنّه اعتنق البروتسنطية أيضاً، "فأرسله المرسلون الأميركان أوّلاً إلى مصر، ثمّ إلى مالطا، حيث عمل مترجماً في مطبعة الإرسالية". إشترك في انكلترا عام 1848 "في وضع صيغة عربية للعهد الجديد، فصرف بعض الوقت في كمبردج واكسفورد. ثمّ ذهب إلى باريس حيث أقام سنوات عدّة" وكتب كتاب "الساق على الساق في ما هو الفارياق" سرد فيه سيرة حياته من جهة وانتقد المجتمع من جهة أخرى إذ "هاجم فيه بعنف، تضميناً، البطريركية المارونية التي قتلت أخاه". زار تونس حيث قيل "وهذا القول غير ثابت، بأنّه اعتنق الإسلام في هذه الفترة وتسمّى بأحمد". انتقل إلى "اسطنبول بدعوة من السلطان حيث أصدر في 1860 صحيفة "الجوائب" التي استمرّت على الصدور حتّى 1883" وكانت "أوّل صحيفة عربية ذات شأن: فكانت الأولى في انتشارها حيثما كانت اللغة العربية منتشرة، والأولى أيضاً في شرح أحداث السياسة العالمية". كان يدافع سياسياً خارج للسلطنة وداخلها عن سياسة السلطان وعن "حقّه بالخلافة".
بطرس البستاني (1819 – 1883)
نشأ في عائلة مارونية "انجبت عدداً من العلماء، تربّى كالشدياق في الدير الماروني في عين ورقة حيث تلقّى أصول اللغة العربية ولغات عديدة أخرى (...) اشتغل البستاني، لمدّة، في القنصليّتين البريطانية والأميركية في بيروت. لكنّه وطّد علاقته بالمرسلين الأميركيين الانجيليين، فاعتنق مذهبهم وساعدهم على ترجمة التوراة إلى العربية، كما اشتغل بالتدريس في معاهدهم". أسّس المدرسة الوطنية في العام 1863 واقامها "كما يدلّ اسمها، على مبدأ وطني لا ديني" واهتمّ فيها بشكل خاص بتدريس اللغة العربية والعلوم الحديثة، واهتمّ بإحياء "معرفة اللغة العربية". أسهم في "خلق نثر عربي حديث، صالح للتعبير البسيط الدقيق المباشر عن مفاهيم الفكر الحديث" من خلال قاموسه العربي "المحيط" وموسوعته العربية "دائرة المعارف" والنشرات الدورية التي كان يرأس تحريرها. "وهكذا نشأت على يد الحلقة المنعقدة حوله من أبنائه وأقربائه وأصدقائه وتلاميذه، القصّة والرواية العربيتان الحديثتان والصحافة العربية الحديثة".
هدف البستاني إلى "تغيير عقول الناطقين بالضاد وقرّائها وجعلهم مواطنين في عالم العلم والاختراع الحديث، وذلك بجعل اللغة العربية أداة صالحة للتعبير عن المفاهيم الحديثة". لذلك وضع موسوعة كبرى بدأ بإصدارها عام 1876 "بمعونة مادية مز الخديوي اسماعيل"، تابع أولاده اصدار أجزائها حتّى بلغت أحد عشر مجلّداً ضخماً دون أن تكتمل، وهي تشتمل على أبحاث في العلوم والطبّ والأشغال الهندسية، إضافة إلى الأفكار الليبرالية السائدة في أوروبا وأميركا.
فرح أنطون (1874 – 1922)
هو صحفي لبناني، نزح من طرابلس إلى القاهرة عام 1897 وأمضى حياته بين مصر ونيويورك، "رئيساً لتحرير عدّة مجلّات عربية، وبنوع خاص مجلّة "الجامعة" الشهيرة في زمانها. وقد عبّر في هذه المجلّات وفي قصصه عن الفكر الأوروبي "المتقدّم" في عصره". نشر في مجلّة دراسة طويلة عن ابن رشد، كما ترجم كتاب "حياة يسوع" لرينان.
سليمان البستاني
ابن عمّ بطرس، لعب "دوراً في السياسة العثمانية بعد إعادة الدستور في 1908". ترجم الإلياذة إلى العربية، "بعد أن درس اليونانية لهذا الغرض". كتب "عبرة وذكرى" بعد ثورة 1908، وهو كتاب يدعو فيه لتقدّم الأمّة العثمانية التي "تضمّ مختلف الشعوب والطوائف الدينية في الأمبراطورية" وشرط تقدّمها الأوّل "انما هو زوال التعصّب الديني والعرقي الأعمى وانماء الروح القومية"، ويعني بها القومية العثمانية وبطلها مدحت باشا "الذي قدّم الكتاب إليه إحياء لذكراه".
خليل غانم
كان أحد النوّاب الموارنة عن بيروت في برلمان 1878 العثماني. أقام في باريس بعد حلّ البرلمان يكتب ويؤلّف. "وهو أحد زعماء جماعة "تركيا الفتاة" الصغيرة التي أبقت على الأفكار الليبرالية حيّة طيلة أعوام التضعضع". كتب كتاباً عن السلاطين العثمانيين يوضح فيه ماهيّة تفكيره: "كان ما أهلك "الأمّة العثمانية" في نظره أمران: الأوّل الاستبداد (...) والثاني الإسلام" بتطبيقه من أيّام الخلفاء العرب وفي أيّام الأتراك. وكان العلاج في نظره "العودة إلى دستور 1876 ومراقبة تربية الأمراء ومحيطهم الخلقي مراقبة دقيقة".
بولس نجيم
ماروني "وضع كتاباً" في القضية اللبنانية بقلم "مسيو جوبلان" المستعار ينادي فيه بوضع خاص للبنان ضمن سوريا، "فقد وجدت الأمّة اللبنانية، منذ بدء التاريخ، واستطاعت أن تحتفظ بخصائصها تحت جميع حكّام سوريا، وأن تتمتّع بحكم ذاتي واسع حتّى بعد أن غرقت في خضمّ السلطنة العثمانية"، وقد تمتّع لبنان رسميّاً بالحكم الذاتي منذ 1861. ودعا لدستور للبنان أكثر ديمقراطية ولتوسيع حدوده لتشمل بيروت وبعض الأقضية ، وذلك بمساعدة فرنسا.
خاتمة
كتاب موضوعي علمي يعالج فيه المؤرّخ مسألة الفكر العربي السياسي خلال عصر النهضة، استقيتُ منه معلومات حول دور اللبنانيين في عصر النهضة هذا (الأدقّ دور سكّان المناطق التي غدت حالياً في لبنان، الذي تشكّل في العام 1920). كُتبَ الكتاب أصلاً بالإنكليزية، لكنّ تعريبه جيّد كفاية إذ عبّر بأسلوب عربي علمي عن أفكار المؤلّف، الأسلوب الذي ساهم في خلقه واستنباطه الكُتّاب والمفكّرون اللبنانيون في الحقبة التاريخية موضوع الدراسة.
*الكاتب حائز على شهادة الماستر في التاريخ من الجامعة اللبنانية.