مبادرة التنمية العالمية في كتاب جديد

تشيخ العصور وتهرم معها مصطلحاتها، فتبرز الحاجة إلى مفاهيم جديدة ومصطلحات حديثة تلبي الحاجات البشرية والتطلعات الإنسانية. وها نحن نقف على أعتاب مرحلة عالمية جديدة تبرز فيها مشاكل جديدة، الأمر الذي يتطلب وضع أسس وأنظمة بناء على مفاهيم قادرة على التعامل مع مشاكل اليوم. وهو ما أقدمت عليه الصين انطلاقا من مسؤوليتها تجاه العالم وكذلك انطلاقا من رؤيتها لضرورة وجود عالم متعدد الأقطاب لا تهيمن فيه قوة على حساب الأخرى .

بالفعل بدأت الصين تخرج إلى العالم بمصطلحات جديدة لم تُسمع طيلة العقود الماضية مثل "الرخاء المشترك" و "مجتمع المصير المشترك" و "مجتمع المسؤولية المشتركة"، ترافق هذا الأمر مع إطلاق مبادرات عالمية مثل "مبادرة الأمن العالمي" وكذلك "مبادرة التنمية العالمية" فقد بدأ هذا القطب الصاعد الجديد يتصرف بمسؤولية تجاه الدول الأخرى لا سيما النامية منها.
خلال المنتدى الصيني العربي للإصلاح والتنمية الذي أقيم في سبتمبر الماضي، طرح الجانبان العربي والصيني رؤى مختلفة حول التنمية وما تنطوي عليه المفاهيم التنموية العالمية، فطرح كل جانب مفهومه للتنمية انطلاقا من المعوقات التي تحول دون متابعة العملية التنموية، خاصة أن أسباب الفقر والحرمان تتعدد في بلداننا العربية.
مبادرة التنمية العالمية
"الدول ليست على متن 190 قاربا صغيرا، وإنما على متن سفينة المصير المشترك في عصر العولمة الاقتصادية، ولا يمكن لأي دولة أن تسعى إلى تحقيق أمنها المطلق بمفردها ولن تتمكن أي دولة أن تنال الاستقرار في ظل وجود اضطرابات في الدول الأخرى" شكّلت مقولة الرئيس الصيني "شي جينغ بينغ" السابقة الذكر أساسا لانطلاق مبادرة التنمية العالمية، التي طرحها خلال مشاركته في المناقشة العامة للدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر من عام 2021. تهدف المبادرة إلى دفع التنمية العالمية نحو مرحلة جديدة تتميز بالتوازن والتناسق والشمولية إضافة إلى إنعاش الاقتصاد وتحقيق تنمية عالمية أقوى وأكثر اخضرارا وصحة.
تقوم مبادرة التنمية العالمية على أسس متعددة منها: التمسك بأولوية التنمية، إبراز التنمية في إطار السياسات الكلية العالمية، تعزيز التنسيق بين الاقتصادات الرئيسية، الحفاظ على الاستقرار والاستدامة، إقامة علاقات الشراكة التنموية العالمية الأكثر مساواة وإتزانا، التمسك بوضع الشعب في المقام الأول وذلك من خلال ضمان معيشة الشعب وتحسينها وحماية حقوق الإنسان من خلال التنمية. التمسك بالمنفعة للجميع والشمولية، الاهتمام بالاحتياجات الخاصة للدول النامية، التمسك بالتنمية المدفوعة بالابتكار عن طريق اغتنام الفرصة التاريخية التي أتاحتها الجولة الجديدة من الثورة التكنولوجية والتحول الصناعي وتسريع عملية تحويل الإنجازات العلمية إلى قوى إنتاجية واقعية، التمسك بالتعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة وذلك باستكمال الحوكمة العالمية للبيئة ومواجهة تغير المناخ، التمسك بالتركيز على العمل وزيادة الاستثمار في الموارد التنموية، وتعزيز التعاون في مجالات الحد من الفقر والأمن الغذائي ومكافحة الجائحة.
كتاب صيني عربي مشترك
"الشراكة الصينية العربية ودفع مبادرة التنمية العالمية" هو كتاب صادر عن كل من "المركز الصيني العربي للإصلاح والتنمية" و"مركز البحوث والتواصل المعرفي" إذ تم إصداره في اجتماع مشترك بين الجانبين العربي والصيني في كلّ من الرياض وشنغهاي، وكذلك حضر حفل التوقيع بعض الجهات عبر الإنترنت.
يتألف الكتاب من عدد من أوراق العمل أُعدّت على أساس مبادرة "التنمية العالمية"، وهي ذاتها أوراق العمل التي تمّ تقديمها في "الدورة الثالثة للمنتدى الصيني العربي".
ووفقا لتلك الأوراق فإنّه من الغايات التي تسعى مبادرة التنمية العالمية إلى تحقيقها هي: "عدم ترك أي بلد وراء الركب، بغية إقامة كيانات تنموية، لأنّ التنمية هي الموضوع الدائم للمجتمع البشري وهي أيضا مسؤولية تاريخية مشتركة للصين وللدول العربية". كما تم وضع المبادئ التي تتمحور حولها مبادرة التنمية العالمية والتي منها: "وضع تنمية الشعوب والدول في المقام الأول..الاهتمام والالتزام بالإبداع والابتكار والتمسك بالتعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة في عالم أكثر اخضرارا، وتعزيز التعاون بين دول العالم في مجالات الحد من الفقر". وأما عن الطريق الذي يجب أن تسلكه التنمية فهو العمل المتصل والتعاون الجاد والبنّاء بدلا من هدم حضارات الشعوب.
كما تطرّق إلى ضرورة "استكشاف مسار التنمية الذي يناسب الظروف الوطنية لكل دولة، عن طريق اغتنام المزايا التكاملية وتسريع المساري التنموي".
ولعلّ أكبر دليل على إمكانية إقامة توافق فعّال بين المسارين العربي والصيني هو أن حجم التجارة الثنائية بين الجانبين وصلت إلى 330 مليار دولار العام الماضي، وقد استوردت الصين 265 مليون طن من النفط الخام من الدول العربية وهو ما يمثل 51.6% من إجمالي واردات الصين النفطية. وهو ما أكدت عليه معظم أوراق العمل الواردة في الكتاب إذ أنه من الضروري التمسك بالمنفعة المتبادلة والكسب المشترك وتعميق التعاون على أرض الواقع لاستكشاف مسارات التنمية المستدامة.
وأما عن التنمية المستدامة فقد تم تعريفها على أنها "التنمية الجيدة التي تصل إلى الجميع وبالتالي هي التنمية الحقيقية" وعن الطريقة العملية التي يجب التوجه إليها في تنفيذ هذه المبادرة فستكون من خلال "التركيز على القضايا الأكثر إلحاحا التي تواجه الدول النامية لا سيما دفع التعاون في الجانب العملي لمكافحة الفقر والأمن الغذائي والتعاون الاقتصادي والمواءمة بين احتياجات الدول كافة من خلال تبني روح الشراكة المتسمة بالانفتاح والاستيعاب"
وكما نقول نحن العرب "اطلبوا العلم ولو في الصين" تطرّق الكتاب إلى ضرورة "طلب العلم ولو في العالم العربي"، خاصة وأن الاستفادة المتبادلة بين الحضارتين الصينية والعربية ساهمت في دفع النهضة الأوروبية وساهمت في التنوير الأوروبي، وذلك كي تتطور التنمية العالمية نحو مرحلة أكثر شمول وتوازن.
وتمت الإشارة إلى أنّ فيروس كورونا كان بمثابة تحذير وتحدّ، ولذلك من الضروري السير بخطى حثيثة من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030" . كما تم الربط ما بين التنمية والسلام فهما وجهان لعملة واحدة فلن تنمو الدول وتتقدم ولن تتحقق رفاهية الشعوب إلا بتحقيق السلم والاستقرار.
كما لفت الكتاب إلى مصطلح "العولمة" من منطلق ما "أفرزته من تعقيدات سلبية، وآثار انكماشية على الصعيد الاقتصادي، وعلى رفاه المجتمعات" ووضع حلا يتمركز في "ضرورة التفكير لإيجاد بدائل تنموية تظهر في شكل تصورات مبنية على ضرورة التوازن التنموي ومتطلبات صناعة الأمن والاستقرار". وأوضح أهمية "مبادرة التنمية العالمية" من هذا المنطلق إذ "تشكل مبادرة التنمية العالمية تصورا مهما من شأنه العمل على بناء مفهوم جديد للتنمية وفق مؤشرات أكثر موضوعية، وتحقيق التوازن المطلوب على اعتبار أنها تنطلق من بناء المفاهيم الجديدة للتنمية، وإنتاج فواعل جديدة تساهم في تحقيق التنمية العالمية وفق منظور جديد ومستدام".
ولم تخل أوراق العمل الواردة في الكتاب من الإشارة إلى مفهوم الفقر في فسطين المحتلة كدولة عربية عانت وتعاني من الاحتلال، هناك حيث يتخذ الفقر في تلك الأرض مفهوما جديدا فهو "ليس فقر في الدخل فقط بل يصل إلى الإقصاء والتهميش والشعور بالعجز والتفكك الاجتماعي وانتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، فمن أبرز التحديات التي تعيق العملية التنموية في فلسطين هي وجود الاحتلال وممارساته ضد الشعب الفلسطيني.
معظم الرؤى في الكتاب اتفقت "على أن العالم لن يعود إلى ما كان عليه في السابق، إلا أن الاختلاف الرئيسي يكمن في كيفية النظر إلى ما سيكون عليه هذا العالم الجديد، وهو ما يدل أننا نمر بمفترق طرق". وأمّا عن الحل لما يعيشه العالم اليوم فوفقا لما اقترحته الأفكار الواردة في الكتاب فإنّ "مبادرة الأمن العالمي التي طرحتها الصين، ومبادرة التنمية العالمية، ومفهوم المستقبل المشترك للبشرية، يمثّل قراءة الصين للعالم، خاصة وأن مستقبل العالم يتوقف على التنمية في نهاية المطاف، كما أن مبادرة التنمية العالمية تتضمّن المفاهيم والنظريات والمقاربات التي من الممكن أن تلتزم بها الدول، ومن هنا تنبثق أهمية إدراج مبادرة التنمية العالمية في إطار المواءمة بين الجانبين الصيني والعربي".
خاتمة
للصين تجربة تنموية عريقة، وهو ما لا يمكن الاختلاف عليه إذ أنّ الواقع يتحدّث عن أهمية المسار التنموي الذي اعتمدته الصين إلى أن وصلت إلى ماهي عليه اليوم، ولعلّ الأمر الأكثر أهمية اليوم أنّ الصين ترغب بمشاركة المسار التنموي هذا انطلاقا من خصائص كل دولة ومشاكلها وواقعها ومعاناتها بعيدا عن فرض مسارات لا تناسب مصالح تلك الدول. وانطلاقا من هنا تأتي أهمية "مبادرة التنمية العالمية" لإقامة مسار تنموي عالمي جديد يناسب متطلبات العصر واحتياجاته.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 411
`


لُجين سليمان