أثر مفقود بين الركام

ركام ليس كالركام، إنه كذلك من بين ركام الحرب التي ختمت مجازرها عند جزء من الأراضي اللبنانية، لكنها أكملت مشروعها التخريبي عند القرى الحدودية في الجنوب تعارك الحجر مستميتتاً في محو ما بقي من صمود لتقتلع آخر الشهود على هزيمتها. طوال ستين يوماً، كان جيش العدو يجوب الأرض على مرأى من "سيادة الشرق الأوسط الجديد"، فكانت المفاجأة. إنطلق أهل القرى نحو نور شهدائهم متّحدين بلحمهم الحي، ليستعيدوا مكانتهم بفعل اليقين وحده.

عند ذلك الركام، راهن جيش الإحتلال على إرهاق الناس واستبعادهم من معادلته "الأسطورية" إلا أنه لم يدرك بأن الدم فعله أطاح بجميع الرهانات. دم الأجساد التي بقيت مكانها مصابة تروي جراحها على أنين الحرية، فتقدمت نحو بطش العدو وأسياده لتحرس ما لها على هذه الأرض، وعلى هذه الأرض ما يستحق الموت لأجله.
تلك الأجساد، شاهدنا روحها القتالية قبل أن يقتلعها العدو بصواريخه كما اقتلع شجر الليمون. شاهدناها حرّة لم تستسلم أمام لهب المجرم، ومن مسافة مجبولة بكرامة الإنسان التي حدثونا عنها في صفوف أدبيات الحياة. لم تكن فقط كما أطلقوا عليها: "مسافة صفر". كانت لتلك الأقدام مسافات تعادل أطفالاً يتامى، وامرأة أرملة ووالدة أخذت بيد الصبي وأوصته بأن درب الشجاعة لا تحدّه مسافة.
مسافة بين الشهيد ووطنه وبين بندقيته وصوت تلك الوالدة المنكوبة بلوعة فراق الأثر. مسافة لكل خطوة وكل رصاصة أطلقت نحو المحتل من غزة إلى الجنوب. مسافة تقاس بين الأرض والسماء. مسافة المقدام قبل تقدمه للمواجهة ومسافة المحارب الذي انقطع التواصل معه. مسافة تاريخ من العدوان والقتل والدمار، مسافة حوّلها أبناء الأرض الى التماس: فهو نصر أو نصر لا خيار غيره.
نراهم يتوافدون نحو ركام ليس كالركام، يبايعون الأمل والمناجاة بلقاء الأثر، أثرٌ ما بين الركام. أثر الحبيب الذي كان بانتظار الأمين لانتشاله من تلك المعركة، معركة طالت لياليها عند القرى الحدودية، فدخلها العدو ولم يخرج منها الا بعد أن تأكد بأنه لم يبقى من الأثر سوى جمجمة. أثر تلك الجمجمة المحمولة بين يدي الأمين على جسد شهيده. ذلك الجسد مع أجساد رفاقه، كانوا أمانة يجب أن تصان، لكن العالم أجمع شارك في الحصار على تلك الأجساد.
هو عالم الفرجة فقط، نظر إلى الجمجمة وحجب عيونه عن منقذها، لأن هذا المنقذ وحده سيبقى شاهداً وفياً للوفي الذي غادره وهذا سيكون كابوس مستقبل الأعداء. كيف لي أن أحدق في تلك الجمجمة وحاملها؟ لنحدّق في المسافة بينهما، مسافة الصابر بلقاء الأثر أي مسافة بين عيون الوالد وجمجمة ضناه، فالقصة كاملة تجدها عند تلك المسافة. أي عيون تلك التي استطاعت أن ترى عند الركام عزيزاً بلا عيون؟ وأي عيون لهذا الوالد المفجوع بأثر الجمجمة؟ أي عيون لدينا ترى المشهد دون أن تنشق الأرض لتبتلع وجوهنا التي كابرت أمام هذه الصورة؟ لكننا ما زلنا صامدين بعيون مذهولة.
أيها الصامت، ألم تصلك تلك الصورة؟ أشك. أي إنسان أنت لم تفقه الحقيقة بعد؟ أي وطن هذا ينأى بنفسه عن تلك الجمجمة؟ أي مسافة تلك تجعلك تراها ولا تستعبر؟ يقولون في الموت العبر، فأينك منها وأينك من هكذا موت؟. كيف لك أن تبقى محايداً من مسافة وهبتك ما ملكت من وجود؟ كيف لك أن تحجب عينيك عن العظام المضحية بلحمها الحي؟ كيف لنا أن نعبر بين تلك المسافات تحت زخ رصاص العدو من دون مقاومة؟ كيف للآخر أن يطالب الأمناء على جماجم فلذات أكبادهم بالتراجع والامتثال لأوامر البيت الأبيض؟ كيف لنا أن نترك المواجهة ونختبأ بعيداً عن حاجة ملحّة اليوم في الانضمام إلى صفوف المقاتلين من الشيوخ والنساء والأطفال عند القرى الحدودية؟
أين حشود المدينة أمام هذه الجمجمة؟ يا بيروت، يا ست الدنيا، كيف لمحبّك والمتغزّل بضجيجك أن يتجرأ على هذا الصمت أمام ضجيج يعلو عن ضجيج مقاهيك؟ إنه ضجيج الجمجمة وحدها. أين هو ذلك الشاعر الذي تكلم عنك ومعك، حتى أنه استثمر بك وحدك ونسي بأن هناك شعراً عليه أن ينصف اليدين اللتين لم تهتزّا تحت تلك الجمجمة؟ أين المثقف الذي حدث الجنوب عن بيروته التي أكرمته بحريّته، فحاضر الجنوبيون عنها الا أنه اليوم أسدل ستار النفاق كي ينتج عن الحرية تعريفاً مقولباً يحميه من الواجب المحق والذي يطالبه بالتضحية بمصالحه المطبّعة مع مجازر العدو.
لماذا كل هذا الهدوء في المدينة؟ هدوء وسط ركام ليس كالركام، ومواجهات ليست كأي مواجهات. عيب علينا بأن نرى ركام القرى الحدودية بمشاعر فضفاضة وفارغة من الانتماء.
جاز للركام أن يفترش الأرض بخرابه ويمحو معالمها، لكن محرّم علينا أن نتذاكى على من اقتحم جميع الحواجز الفاصلة بينه وبين حريته ليصل عند هذا الركام تحديداً. هذا ركام خاص وتلك الأرض ملك الشجعان فقط. هل هناك أجمل من استعراض الحرية أمام مهزوم متعجرف وقاتل؟ هل لدى أحدهم استعراض يفوق بتشويقه وإبداع خالقه استعراضات نساء كنّ أجمل النساء وهنّ يتلاصقن مع بنادق العدو وملالاته التي هتكت حرمة الحياة. تلك النساء لم تكن تجابه بالورد، بل قابلها رصاص الإسرائيلي. فلك أنت من استعرضت قبضاتك هجوماً على المشهد، أن تستعرض لوحة تزين بها شهامة هؤلاء النساء بالورد.
هل هناك استعراض يؤرق سطوة العدو كما فعل استعراض أهالي القرى الحدودية؟ كيف لك أن تمقت استعراض تحرير الأرض وفي المقابل "راخيها" أمام استعراض العدو وهو ينسف قرىً بكاملها، ليرفع لاحقاً نجمة داوود.
هل هناك استعراض يمجّده الخالق كما استعراض والدة الشهيد التي وضعت عند ركام طيفه وردة حمراء، وجلست مع أثره المفقود حتى القيامة. تلك استعراضات غابت عنك ولم تفقه بها، لأنها قدّر لها أن تكون استعراضات تفوق خيالك السياسي المطبّع مع سلطة السلام.

هل هناك استعراض آخر تفوّق على استعراض العودة؟
العودة الى هذا الركام، فأهل الدين والحب يعلمون بأنه ركام ليس كالركام، وأن دماء الحق كما الله، تخلق ما لا تعلمون.
هناك عند القرى الحدودية، رأيت ما لم تعطك إياه جبهة الإسناد وحرب العدوان على بلدك. كنت بانتظار هذا النصر تحديداً، لتستعيد بريقاً من روحك التي نكّل بها العدو. كنت تتهيأ لمثل هذه العودة بعد انتهاء الهدنة، لأنك لم تعد بعد وقف إطلاق النار. جلست كالغريب المستوحش رغم استعادة سقف منزلك الآمن، وكنت في حاجة إلى ركام ليس كالركام يذكّرك بأنك لن تستطيع العودة وهناك أثرٌ مفقود وأرض محتلّة. كنت بانتظار رؤية تلك الجمجمة، لتستعيد عافية نصرك المصدّع فعبر جماجمهم أعادوك عند ركام الصحوة وركام الثابت: إسرائيل حتماً الى زوال.
كنت في انتظار تلك الوالدة تمدّ لك يديها المجبولتين بأنقاض الأثر، يديها المغروستين بين ركام ليس كالركام لتقتلع منه أثراً ولو كان جمجمة.
لذلك سيبقى ركاماً ليس كالركام.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 427
`


حائرة سليم