تأخذُ الغيوم بعض هيئاتنا، وبمتعة المطر والشّوق، أنتظرُ هاتي القطرات المُتباسمة، تسعى إلينا كيف تتوالد، كيف قطراتنا هناك، تتكاون عناقنا هنا، وعند غرابات الرؤى، هسيسُ الأساطير، خلفها، حروب الأكوان، حتى كانت سفينتنا الفضائية، هذي الأرض جامعة العوالم، الذاخرة، المتذاكرة دماءَ الكائنات، والغزاة منها، والحفاة، والطغاة، نعْدوها بأشكالٍ، بهيئاتِ أصنام، ولم أزل، أقتفي رائحةَ الشتوة الأولى، رائعة الغُسْلِ والتطَّهْر، لأزهى بخيوطٍ تتسلّلُ ذهبية، ولا لأذهبَ عن بوحي، وقد خلعتُ نعليَ عند أوّلِ خيال... من حينها، وحجيج الأرض، يقيمون موائد الأضاحي، تلك المُنتقاة بعناية، الذين، فائض بشرٍ ودموع كائنات، فائض صراخٍ وانذهال، هاك، عند الضفاف غزوات التبتّل، مجرّد إدمانٍ بأدواتٍ بشرية.
ونحن، في هذا العصر الغريب، منذ حِقبٍ سحيقة، أذكرُ كم قُتِلتُ؟ كم صديقاً رفيقاً إنساناً... كائناً حيّاً في دمي؟ تمهّلْ صديقي، كلانا قِصّةُ سفرٍ ولقاء، وإن عزَّ سفرٌ حين سفرٍ خارج الوقت، تظلُّ في وقتنا... نُنشِدُ معاً رقصةَ الشمس، ولمّا نزل نولدُ بعد رصاصاتٍ قاتلة، والحياة بعدك فارغة، لكنّك من أثيرها ونسيجها، تُسبّحُ برحابك الجديدة، وبأنّا انتظارُكَ الورديّ، بأنّكَ ديمومتنا معاً، لا زمنَ بعد هذا السفر، فالوقت إلى زوال، حيثُكَ الخلود، وهاتي الأنخاب على قارعة المُحتفين، نرفعها صُبحَ مساء، والعين وصلٌ لعينٍ في عين اليقين، تنظرُنا من عليائك بلا ظنون، بلا خوفٍ يعترينا غير الشّوق لأيامنا، لمرايانا، لهذا الإمتداد السرمدي، تتداخلُ فيه للحظة التكوين، وقد خُلِقنا للتواصل، للحياة، لأبديةٍ من مأد الجذور.
وقد رفعتُ عن كاهل القمرِ وردةً جذلانة، وبعض أفكارٍ راودتني، وتلك الأوراد لا تنْي، تهيم بمائي، بصلاتي ما بين جِنِّ سليمان، ورمشة عين، وعلى عين عيناثا، نواعمُ العين، يطرفن بغسقٍ وشفق، فانشقّ لهن القمر بآيته، واعتلّ الكون حتى اعتدل... هنا في مهدنا الوجوديّ، اتّبعنا معاً نوستالجيا انوجادنا، واستعجلتنا النوائبُ، لم نُصغِ لها، صِغْنا فرَحَنا من العذابات، وسرّعنا العقاربَ تدورُ بعكسها، كي ننعمَ... نكبر كلَّ ترجيعٍ ونداء، والساحات والميادين، حُرّاسها من كلِّ حبّةِ حِنطة وجمر، ولا لتتبخرَ الأنفاس؛ فهي في تآفقها وتعامدها، تصنع وطناً قديماً غنّيناهُ، حملناه في السرّاء والضرّاء، كي نغفو لمرةٍ، ولا نصحو على مقابرنا الحياتية.
عوالمُنا الغريبةُ القاسيّة، تراقبُنا، لا ننفكُّ عن صخبها وضجيجها، لا استقرارَ كي نشمَّ أريجَها؛ فالأفكار اللعوب، تأخذ بنواصي الوجود، تحيل المعرفةَ لمجرّدِ مُتلّقٍ، لا يفقه أمراً، والسنون الكبيسة ترمينا بمعادلات المزارع والقطعان، طغيانٌ فريدٌ نذيرُ خزيٍّ وسقوط، ولمّا أزلْ أتسقّطُ منابتي؛ فنبتَ بين يديَّ، في أعماقي، قرنٌ من الحروب الدامية، والزّمان غبار أجسادِنا وأرواحنا، رواحنا في مكاننا بلا إرادة، إلياذةٌ طويلة الأساطير، الأساطين والأعراب، وغراب قابيل على عهده وخوفه، ينعق، يزعق في جراحنا المديدة، في حديدنا وصَلْبنا الدامي، في أصلابنا وارحامنا، في هذه الغيبة والغيبوبة الأممية، في قطرةٍ أوسع من مجرّات.
كم لوجهٍ نحتاجُ لكي نغضب، لكي ننهض، لكي... وأخشى الجانبَ الآخر المجهول، كما لا أرجوه، كمن لا يخشاه، وهذه صورتي في وجه أبي، افتقد هذ الوجهَ المنذور لمقامهِ هناك، فاستعدَدْتُ ليومٍ آخر، لرجلٍ ذرّتهُ القصائد، وذلك العائد من موته، يسحبُ السحابَ بطائرة ورق، فلبثنا بضع سنينَ في الخوف والحنين، في ذلك الجُبِّ اليوسُفيِّ، وبعض السيارةِ رمونا بصلياتٍ جائرة، وغيرهم بمشاعر حائرة، غيرهم بأنوارٍ حملتني إلى صدرها، إلى صدر الحُبِّ والأمان، وكلُّ ما فيَّ غريب وشهيّ، كما لو كنتُ وجبةَ الموتِ هناك، يُجالسُني، يُخالطُ مشاعري وأفكاري، صوتي الخفيَّ، يومياتي المُحَصّنة بالآيات، يذهبُ بي في رحلة كلِّ يوم، ولا أجدُني على غير فراش، أتذكّرُ كيف كنّا في كلِّ الأماكن، في تلك اللحظة المفتوحة على الوقت، حيثُنا لا زمنَ، لا حِسابَ، لا أجراسَ، لا حُرّاس، لا أعلامَ أو مآذن، فقط ذلك الصراخ من أعماق المبنى المهدّم، وأنا أنظر إليه... أُناظِرُهُ على رؤوس الأشهاد كي يرفع الحطّام عن الأجساد الطرّية. لا يفعل، فهذا شأنهُ وعمله على الأرجح، وأجنحُ لأسئلةٍ بلا جواب، لمطرٍ مهروسِ الجلود، لولاداتِ الطين الممنوعة العواقب، وأنا القتيل الرّاغبُ بالمثول أمام قضاة المحكمة العليا، مرافعاً، مدافعاً عن القتلى، عن القتَلة لربّما، ربّما هم منذورن لكلّ هذا القتل المعولم.