في الاتجاه الاوّل، استعمل عدداً هائلاً من النظريات الفلسفية وحاول إما تطويعها أو نقدها لفهم قوالب المجتمع ودينامياته. والاتجاه الثاني هو في محاولته لأن تكون أفكاره سهلة الفهم من قبل أفراد المجتمع حتّى تلك الأفكار التي كانت معاكسة للتقاليد الاجتماعية والمفاهيم المترسّخة، والتي قد تبدو للبعض أنها سباحة في عكس التيار. وفي هذا المنحى، قال ماركس " جميع الفلاسفة حاولوا تفسير المجتمع من خلال نظريات عديدة. المطلوب ليس تفسير العالم فحسب، بل تغييره." وتكريساً منه لهذه الجهود، كتب ماركس مجلّده الشهير عن الاقتصاد السياسي والذي حمل عنوان " رأس المال " في أجزاءٍ ثلاث، بالإضافة الى كتابته البيان الشيوعي الذائع الصيت وهو بمثابة منشور يقع في ٥٠ صفحة.
لقد نظّر العديد من النخب إلى النظريات الماركسية بوصفها نظريات غير محدّثة لأنّ رؤية ماركس حيال الرأسمالية كنظام توأم للأزمات ومصيرها مرهون بالصراع الطبقيّ، اعتبرها البعض بأنها نظريات مرّ عليها الزمن ولم تعد تصلح لحاضرنا. ولكن في الحقيقة ما كانت الرأسمالية إلى أن تعرّضت لأزمة أخرى وعندها تحمّس العديد من القراء لاستكشاف ماركس "القديم". منذ الأزمة المالية العالمية التي حدثت عام ٢٠٠٨، دخلت الماركسية حقبةً جديدة واكتسبت معها المدرسة الماركسية أهميةً زائدة.
أراد ماركس معاينة الواقع بنظرة ثاقبة في محاولة منه لفهم عملية التغيير المتشابكة المسارات. وبعد وضع الإطار النظري لعملية التغيير، أراد أن يفهم الطبقة العاملة بأسلوب مبسّط كيف يحدث التغيير. ولفهم ماركس بطريقة سهلة، وضع لنا المؤرخ الاجتماعي مانوس ماكغروغان كتاباً بعنوان "بحقّ الجحيم.. من هو كارل ماركس". أراد ماكغروغان من خلال هذا الكتاب أن يحوّل صورة ماركس المترسّخة عند القرّاء من فيلسوف نخبويّ إلى إنسان كعامة الشعب مستعرضاً بذلك مسار حياته وأبرز نظرياته.
في كتابه المكوّن من ١١٥ صفحة، يلخّص ماكغروغان أبرز ما خلص إليه ماركس ناهلاً من حصاده الفكري بطريقة تشرح للقارئ كيف وصل إلى الخلاصات وما يتوجّب فعله. كتاب ماكغروغان يغوص في حياة بعض المفكّرين اللامعين والتأثيرات الاجتماعية والثقافية التي ارتبطت بأفكارهم الرائدة في محاولة لفهم كيفية التوفيق بينها وجمعها. يسعى الكتاب إلى نزع ما يسميه الكاتب ب " التعقيد الأكاديمي المتعمّد " لماركس ومؤلّفاته محوّلاً إيّاها الى مواد بالإنكليزية المبسطّة. إذا صادفتم أحداً من معارفكم وهو ما يزال يتابع تحصيله الجامعي، فعلى الأرجح أن يكون هذا الشخص قد لُقّن عن ماركس " الصعب " و " المعقّد " بينما يسعى ماكغروغان أن يفهم هذا " الصعب " بطريقة جد لافتة. في الحقيقة، فإنّ واحدة من ميزات الحركة الاشتراكية هي الإقرار الطوعي بأننا جميعنا طلاب علم ومعرفة ولسنا بحاجة إلى مؤسسات تربوية كي توجّه لنا الإطار المعرفي. من هذا المنطلق، تصبح قراءة ماكغروغان ضرورية لأي شخص يريد أن يطّلع على النظرية الماركسية. على سبيل المثال، فإنّ واحدة من أقوى الأدوات التحليلية التي خطّها ماركس وهي ما يعرف بال " ديالكتيك "، ينتقل الكاتب من شرحها بوصفها نظرية جامدة تحلّل الواقع المعطى ونقيضه إلى جعلها نظرية حيّة للتغيير. صحيح أن هذه النظرية تنبع من الفلسفة كإطار مرجعي ولكن الديالكتيك يتحوّل إلى منحى آخر عند ماركس بفعل تحليله للثورات انطلاقاً منه. يشرح الكاتب معاني مفردتيْ "البنى التحتية" و"البنى الفوقية " في محاولة لفهم ديناميات المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، يشرح كيف أن تاريخ الصراع الطبقيّ يعني في طيّاته أكثر من كونه حرباً تقليدية في العصر الفيكتوري تدور رحاها بين رجال يمتطون القبعات المرتفعة عالياً عن رؤوسهم والآخرين الذين يرتدون قبعات مسطحّة. إنّ الكتاب يحتوي على فهم عميق لماركس ولكن في الوقت عينه لا ينزلق لأن يكون مادةً فيها من التبسيط الفائق.
إنّي أنصح جميع الناس بقراءة هذا الكتاب ولكن أخصّ بالذكر محبّي جيرمي كوربين - سياسي بريطاني مشهور وزعيم حزب العمّال البريطاني. أقول هذا لأنّ أنصار كوربين قد خلطوا بين عالم المال والسياسية وفي ترويجهم لهذه النظريات، بدوا وكأنهم يطلقون شعارات شعبوية هي أقرب إلى أن تكون نظريات مؤامرة لأنها تستند إلى فكرة وحيدة، هي: أن الأغنياء يشترون السياسة.
كتاب ماكغروغان هو تذكير مفيد بأنّ رؤية ماركس للعالم انطلقت من تحليله للعملية الاجتماعية والتي يحرّكها المصالح الطبقية وليس نرجسية الإنسان وفساده. يكتب ماكغروغان انطلاقاً من إعجابه بماركس ولكن كتابه هذا قد لا يلقى إعجاباً من كتلة البلدان الشيوعية المفكّكة حالياً. قادة هذه البلدان قد لا يلقى الكتاب استحساناً لديهم لأنهم ببساطة يرون في أنفسهم وفي بلادهم النموذج الأمثل لتطبيق نظريات ماركس. في الختام، أودُّ القول أنّ الكتاب لا ينطلق من الماركسية ليفسّر ماركس، بل ينظر إلى الماركسية من خلال ماركس نفسه ونمط حياته وكتاباته ونشاطه فيما غرقت كتب أخرى مشابهة لأن تتسابق فيما بينها حول من يقدّم " النسخة " الأفضل للماركسية.
* المقال مترجم من موقع صحيفة The Morning Star، وهو موجود على الرابط التالي:
https://morningstaronline.co.uk/article/f/marx-doesnt-have-be-difficult
ترجمة: عطالله السليم