ومن نافل القول أنّ العلاقات الإنتاجية السائدة في لبنان علاقات رأسمالية تبعية متعايشة اليوم مع نمط الإنتاج السلعي البسيط وبعض بقايا الإقطاعية وحتى الإنتاج الطبيعي، وكذلك النمط الرأسمالي الخاص المحلي والأجنبي (الاحتكاري وما قبل الاحتكاري) ورأسمالية الدولة. هذه العلاقات تشكّلت بإرادة ورغبة الاستعمار الذي فُرِض على اللبنانيين.
وهكذا بدأ تميّز بنيتنا الاجتماعية بتميّز ولادة هذه العلاقات التي لم تولد نتاج منطق في تطور العلاقات الإقطاعية، بل جرى زرعها من قبل الاستعمار في عملية تهديمٍ للنظام الإقطاعي حرّر فيها القوى المنتجة من إطارها القديم ثم سجنها في إطارٍ جديدٍ غريبٍ عن البنية هو الإطار الاستعماري، لم يكُنْ التطور الإقطاعي ليفرضَه عليها في سياق تطوّره. لقد اعتدى الاستعمار على تاريخنا وحاصر حركته في مسعى لمنع قيام أيّ قوى منافسة في هذه المنطقة أو تلك. وبذلك جذب الاستعمار قوانا المنتجة إلى دائرة دورته الرأسمالية خدمةً لها في تأمين الموارد وتأمين أسواق التصريف لسلعه.
وقد مثّلت هذه العملية مسار انتقال النظام الإقطاعي إلى نظام جديد زرعه الاستعمار في بلادنا دون أن يحرّرَ تاريخها، فحرّك البنية الإجتماعية بشكلٍ سدّ عليها أفق التطور الرأسمالي لمّا وضعها في خدمته، فأوجد فيه بنيةً قطاعيةً تجاريةً خدماتيةً زراعيةً ولاحقاً مصرفية وقمع كل أشكال الإنتاج بإغراق الأسواق بالسلع المستوردة.
ومن أواسط الخمسينيّات وحتى عشية الحرب الأهلية تمكّن الرأسمال التجاري–المصرفي من السيطرة على كامل النشاط الاقتصادي، فتشكلت الفئة التجارية–المصرفية المهيمنة في الاقتصاد اللبناني، والتي وجدت في النشاط الصناعي مجالاً مُربِحاً لتوظيف الفوائض المالية التي لم تكن بنية الاقتصاد قادرةً على استيعابها، فدخل لبنان نوعاً جديداً من الوساطة والتبعية هي التبعية الصناعية، إنْ لِجهة التزوّد بالمواد الأولية والآلات أو التسويق.
ولا بدّ من لفت النظر إلى نوع من النشاط الاقتصادي الميليشياوي الذي مورِسَ خلال الحرب وذلك بوضع اليد على مرافقَ حكوميةٍ وأراضٍ ومؤسساتٍ كانت تُدار لصالح زعماء الميلشيات. إضافةً إلى الخوات المتعدّدة الأنواع وخاصة الجباية على الحواجز المنظمة، ممّا جعل الحركة والتواصل الاقتصادي مستمرّاً بين المناطق المختلفة. إنّ نوعاً من التراكم النقدي الميليشياوي جرى وأنتج مواقعَ اقتصاديةً هي التي شكّلت القاعدة لانضمام الزعماء إلى التحالف السلطوي الجديد والذي غذّى لاحقاً ظاهرة الفساد في الدولة.
بعد انتهاء الحرب الأهلية التي أنزلت دماراً كبيراً في القوى المنتجة والصناعة والبنية التحتية خصوصاً، كان لبنان قد فقد دوره كوسيط بين الشرق والغرب وكان على الطغمة المالية أن تبحث عن بديلٍ يؤمّن لها حماية سيطرتها، مضاعفة ثرواتها، واسترداد ما خسرته خلال الحرب. فكان مشروع الإعمار وكلّ السياسات الاقتصادية التي وُضِعت لخدمة هذا المشروع وبشكلٍ خاص السياسات المالية والنقدية. ويقوم هذا المشروع على تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار وعلى أسعار فائدة مرتفعة جدّاً والمديونية وتحفيز تدفق الموارد المالية من الخارج على أمل استعادة دور الوساطة مقابل الانخراط في "مسيرة السلام الأميركي". ناهيك عن المساعدات الأجنبية التي جاءت عبر مشاريع باريس واحد واثنين وثلاثة ومشروع سيدر المنتظر.
إن أفق تطور بلداننا، الذي من شأنه أن يؤمّن شروط تجديد إنتاج الحياة المادية لشعوبنا بشكلٍ لائق، متماشياً مع العصر، يملي على هذه البلدان أن تخرج من دائرة النظام الرأسمالي العالمي، أي أن تفك الارتباط به، وتقطع التبعية له، وتسلك طريق تطورٍ آخر هو طريق الاشتراكية.
إن هذا الطريق يختلف في بلادنا عنه في البلدان الرأسمالية المتطورة (إذ أن تميز التطور يؤدي لتميز الانتقال) فهو عملية تحرر وطني، مضمونها تغيير بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية-القاعدة المادية للوجود الإمبريالي في بلادنا - واستبدالها بعلاقات اشتراكية لتحرير القوى المنتجة، إنها عملية تحرر من الإمبريالية وعملية تحرّر من الرأسمالية وليس تحرير الرأسمالية كما يتوهّم الفكر القومي. إنّه نضالٌ طبقي مزدوج ضدّ البرجوازية الإمبريالية وضدّ البرجوازية التابعة، وهذا ما يميز الطرح الماركسي للقضية القومية عن طرح القوى القومية لها في بلادنا. ومع أنّ مضمون هذه العملية اقتصادي، إلّا أنها تتحقق على المستوى السياسي بإسقاط السلطة السياسية للطغمة المالية وإقامة سلطة وطنية ديمقراطية.
وبناءً على كل ذلك، ينبغي أن ينصبّ الجهد النظري للحزب الشيوعي اللبناني على إنتاج نظرية (رؤية) للتحرّر الوطني في بلادنا. وكون هذا التحرر ممارسة للصراع الطبقي لها طابع وطني، فإن هذه النظرية هي نظرية الممارسة السياسية للصراع الطبقي، وذلك بحركة تحرّر وطني موجّهة لقطع علاقة التبعية بالإمبريالية (فك الارتباط) ولتصفية علاقات الإنتاج السابقة على الرأسمالية وبناء الاقتصاد الوطني المستقل المتمركز على الذات مع ما يتطلّبه ذلك من تمرحل في المهمات والصراع والتحالفات.
لقد حملت الظروف في لبنان والبلدان العربية البرجوازية الناشئة إلى قيادة هذه الحركة، حيث واجهت الوجود الاستعماري المباشر وانتزعت في ما بعد الاستقلال السياسي.غير أنّ طبيعتها التبعية أوقفت اندفاعتها التحرّرية عند هذا الإنجاز. وقد أثار عجزها وخيانتها موجاتٍ جديدة من النضال الجماهيري تجلت في فعاليات جماهيرية في مختلف مناطق العالم العربي وفي مجموعة من الانقلابات العسكرية التي قامت بها فئات برجوازية صغيرة ووسطية ووصلت إلى السلطة لتجاوز محدودية البرجوازية التابعة. لكنّ هذه الفئات فشلت بدورها في حلّ قضايا التحرر الوطني وارتكبت أقسامٌ منها الخيانة الوطنية منذ إقامة الكيان الصهيوني، مروراً بالعدوان الثلاثي عام 1956 وحرب 1967 وصولاً لتوقيع اتفاقيات الخيانة مع العدو الصهيوني إلى المحاولات الحثيثة لتصفية القضية الفلسطينية.
لكنّ الطبقة العاملة وبشخص أحزابها ردّت على البرجوازية فرفعت راية التحرر الاجتماعي في سعيٍ لتأكيد استقلالها السياسي بممارستها الطبقية ووقعت في خطأ الفصل بين التحرّر القومي والتحرر الاجتماعي. وقد انعكست ممارسة الأحزاب الشيوعية في مواقف خاطئة من القضية القومية كان أخطرها الموافقة على قرار تقسيم فلسطين. بهذا المعنى يمكننا الاستنتاج أنّ أزمة القيادة البرجوازية لحركة التحرر هي نتيجة مأزق طبيعي لم يكن بدأ من دخولها إياه. أمّا أزمة الطبقة العاملة وأحزابها فهي ليست قدراً وإنما نتيجة ممارسة سياسية خاطئة تمكّنت من تصحيحه لاحقاً.
إن استمرار هذه الأزمة وتجدّدها بسبب انعدام الشروط لحلّها في وقتٍ تفاقمت فيه كلّ التناقضات الفاعلة في البنية التبعية العربية أدى لانفجارها في جملة من الانتفاضات التي طالت غالبية البلدان العربية، بحيث أنّ قيادة هذه البلدان عجزت بفعل ممارساتها عن التحكم بالوضع السياسي والاقتصادي-الاجتماعي وإدارته، كما تفاقمت معاناة الطبقات الكادحة، في وقتٍ لم تكن فيه الأحزاب الشيوعية واليسارية جاهزة لقيادة هذه الانتفاضات. وللأسف فإنّ غياب القيادة الطبقية السياسية لهذه الانتفاضات وغياب البرنامج السياسي الواضح أفسحَ المجال أمام الثورة المضادة التي انخرطت فيها احتياطات الأنظمة الاستبدادية والإسلام السياسي والقوى الرجعية العربية والقوى الإمبريالية والصهيونية، ممّا أوصل هذه الانتفاضات إلى الفشل.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أن القوى الإمبريالية جاهزة على الدوام للتدخل في البلدان العربية من أجل تأمين الظروف لتأبيد تبعيّتها ونهب خيراتها، مستندةً إلى وجود الكيان الصهيوني، وهي لجأت مؤخّراً إلى التدخل المباشر والاحتلال وتفكيك بلدان بحالها. وقد استفادت من تعثر الانتفاضات الشعبية للتدخل ولإدخال كل عفن الإرهاب لتمزيق نسيج أمّتنا، غير أنّ محاولاتها باءت بالفشل حتى الآن.
إنّ الوضع الذي وصلت إليه عملية التحرر الوطني العربية بعد فشل كلّ مكونات البرجوازية التابعة التقليدية منها والمتجددة يلقي الضوء على الاستنتاج الضروري منطقيّاً وتاريخيّاً، ومفاده أنّ تحقيق التحرّر الوطني في بلادنا لن يتحقّق ما لم تستلم الطبقة العاملة وأحزابها دفة القيادة، لأنها الطبقة الوحيدة المؤهلة لقيادة هذه العملية رغم وجود فئات اجتماعية متعددة لها مصلحة في التحرر الوطني. إلّا أنّ هذه الضرورة التاريخية والمنطقية لا تتناسب مع وضع الطبقة العاملة العربية لا من جهة تشكّلها، ولا من جهة تحقيق استقلالها، ولا لجهة تحولها إلى طبقة لذاتها. لذلك فإنّ مهمة تأهيلها للعب هذا الدور مهمة جليلة يقع تحقيقها على عاتق الأحزاب الشيوعية والقوى الثورية العربية وفق تمرحلٍ ضروري. وهذا هو المسار الوحيد لحلّ أزمة حركة التحرر الوطني العربية والسير على طريق التغيير الثوري.
غير أنّ الواقع التاريخي يضع الحركة الثورية أمام مهمّات مُعقّدة ومُركّبة لتحقيق مسيرة التغيير. فالطبقة العاملة تعاني من ظاهرة ضعف التفارق الطبقي والتشتّت ومن ضعف الحركة النقابية ونجاح البرجوازية وأحزابها في السيطرة على أجزاء واسعة منها. من هنا فإنّ التحرر الوطني لن يتحقّق إلّا عبر تمرحل للصراع الطبقي يحدّد تمرحل التحرر في بنيتنا الاجتماعية. فالقوى التي تشكّل جيش التحرّر الوطني هي الجماهير الشعبية وهذه الجماهير متمركزة في خندق أعدائها. ولا يتحقّق تحرّر وبناء مجتمع جديد بدون قاعدة مادية حقيقية عجزت البرجوازية عن إرساء حتى أسسها. وهذا يعني أنّ عملية التحرّر تتضمن إنجاز ما عجزت عنه البرجوازية وتحقيق ما تسعى إليه الطبقات الكادحة. لذا تقضي الضرورة في مرحلة أولى بناء ميزان قوى يضغط لتغيير السياسات الاقتصادية–الاجتماعية تكون قوامه الجماهير الشعبية التي ينبغي تحريرها بنضال ديمقراطي عام، وهذا ما يؤمّن الشروط للانتقال إلى مرحلةٍ ثانية، تُبنى فيها سلطة وطنية ديمقراطية تكون دعامة إصلاحات اقتصادية –اجتماعية جذرية، تتمثّل في بناء قاعدة مادية اقتصادية هي شرط لضمان انتقال إلى المرحلة الثالثة، هي مرحلة تحقيق الاشتراكية، حيث يكون للطبقة العاملة في هذه المراحل دور متزايد وصولاً لاحتلال موقع الطليعة وموقع القيادة. إنّ هذه المراحل مجرد محطات في مسيرة واحدة تستخدم فيها كل أشكال وممارسات الصراع الطبقي، لا يقوم بينها فاصل قاطع، بل سوف تتقاطع فيها المهمات، ناهيك عن مفاجآت العدو الصهيوني والإمبريالية عموماً.
وللأسباب المذكورة أعلاه، فإن الطبقة العاملة منفردة لا تستطيع أن تقوم بمهمتها التاريخية المركبة والتي تفترض إنجاز ما عجزت عن إنجازه البرجوازية من مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية وتحقيق الاشتراكية، لذلك تكون وحزبُها مجبرين على إقامة التحالف الطبقي الضروري للقيام بهذه المهمة في كل مرحلة ارتباطاً بالتناقضات المسيطرة فيها والمهمات التي تواجهها. ولذلك فإنّ تمرحل هذه العملية التحرّرية هو تمرحل للتحالفات التي يمكن أن توفّرها بنية الصراع الطبقي في ظروفنا.