أنتَ تحلمُ، يا شعبي، منذ القديم القديم.. ودائماً كان حلمُكَ يُزهرُ حكايةً من حكايا الشرق، هذه الأسطورة المضمّخة بعبيرِ الإنسانِ والحقيقة..
أنتَ تحلمُ، يا شعبي، منذ أيامكَ الأولى على هذا الشاطئ.. ودائماً كان حلمكَ يمخرُ العبابَ حيناً، عبابَ هذا البحرِ وذاكَ المحيط.. ويَمخرُ حيناً لُجَجَ الزمنِ إلى عصورٍ يُزهرُ فيكَ حلمكَ شيئاً آخرَ غيرَ الحكاياتِ الأسطورية، وغيرَ خُيَلاءِ الأجنحةِ الطاووسيّة..
ودائماً كان حلمكَ، يا شعبي، يفوحُ بطيوبِ الأرض، وعبيرِ السواعدِ التي تفتحُ كنوزَ الأرض.. ودائماً كان حلمكَ يتلامعُ بالضياءِ على جباهِ الأبطالِ الحارسين حلمَكَ أن لا تغتالَه جحافلُ الغزاةِ من كلِّ جنسٍ ولون..
***
.. وذاتَ يومٍ أزهرَ حلمُكَ القديم القديم، بعد كفاحٍ طويلٍ طويل..
أزهرَ الحقيقةَ نفسَها التي كانت تبرعمُ الحلمَ يوم انتفض فتاكَ طانيوس شاهين واعتلى صهوةَ جواده، رافعاً ذراعيك أنتَ أمام الجبارين زعانفةِ الإقطاع..
أزهرَ الحقيقةَ نفسَها التي كانت تنبضُ في قلبِ الحلم يومَ نبضتْ في زوايا الأستانة وبيروت ودمشقَ وبغدادَ والقاهرة عروقٌ في بنيكَ وبني عمومتكَ هاتفةً بالمتسلّطين: ارفعوا أيديَكم عن حريةِ العربِ ومصيرِ العرب..
أزهرَ الحقيقةَ نفسَها التي كانت ترنو في عين الحلمِ يومَ انطلقتْ أولُ رصاصةٍ في لبنانِكَ تُعلِنُ باسمك، ي اشعبي، أنْ لا قرارَ للاستعمار الجديد، بعد الاستعمار العثماني، في هذه الأرض على هذا الشاطئ..
ذاتَ يوم، كهذا اليوم، من عام 1943، أزهرَ حلمُكَ القديمَ القديم.. أزهرَ هذه الحقيقةَ نفسَها التي نسمّيها "الاستقلال"..
***
سمَّيْناها "استقلالاً " هذه الزهرة التي انبثقتْ من حلمِكَ العظيم.. انبثقتْ وعليها من وهج الكفاح، كفاحِكَ يا شعبي، ضياءُ الجباهِ الأبيّةِ التي ارتفعتْ دائماً على القِمم تحرسُ ذاكَ الحلمَ وتصونُه.. تسقيه عرَقَ السواعدِ السُّمرِ في قتالِ الغزاة، أو في بناءِ الحياة..
سمّيْناها " استقلالاً "، لأنّ الاستقلالَ هو وحدَه معنى حلمِكَ القديم العظيم، وهو وحدَه معنى الحقيقةِ التي انبثق عنها الحلمُ هذا..
ولكنْ، أأنتَ ترى يا شعبي كيف يعبثُ العابثون بزهرةِ الحلم، بنتِ تشرين؟..
أأنتَ ترى كيف يشوّهون معنى حلمِكَ النقي، ومعنى حقيقتِك البهيّة؟
أأنتَ ترى كيف تراكضَ اللصوصُ إلى بستانِكَ غداةَ تفتّحتْ زهرةُ الحلم، فإذا هي في أيديَهم يسلبونها العبيرَ إلى مخادعِهم، ويحتلبون منها البهاءَ إلى خزائِنِهم..
وإذا أنتَ، يا شعبي لا تملكُ من حلمِكَ، الذي حرسْتَه أجيالاً وصُنْتَه في ضميرِكَ وفكرِكَ وساعديْك، غير اسمِه وأناشيدِه وأعلامِه؟..
***
لا عليكَ، يا شعبي..
فهذا الاستقلالُ لكَ أولاً وأخيراً.. ولْيكنْ لكَ اسمُهُ وأناشيدُهُ وأعلامُه.. فأنتَ لا بدّ ستُنقِذُ اسمَه من شوْهاتهم.. ولا بدّ أنتَ ستملأ أناشيدَه فرحاً وأغاريدَ خَصبٍ وعافية.. وأنتَ لا بدّ سترفعُ أعلامَه إلى مكانِكَ من التاريخِ ترفرفُ عليك بأضواءِ الحلم وجمالاتِ الحقيقةِ التي ولدها الحلم..
***
في يومِ عيدِكَ هذا، يا شعبي، أراكَ مِلءَ وجودي.. أراكَ ماضياً وحاضراً، وأراكَ في المدى الرحبِ إلى مستقبلٍ وضّاء..
فتقبّلْ بالرضا أغنيةَ حبي.. يا شعبي..
*هذه المقالة للشهيد المفكر حسين مروة نُشرتْ، بمناسبة عيد الاستقلال (ويومَ عيد الاستقلال) في جريدة " النداء" بتاريخ 22 / 11 / 1967