عدوان تموز .. بين الانجازات والاخفاقات

كشفت كونداليزا رايس، إبّان عدوان تموز 2006، جوهر النوايا الأميركية لإعادة تقسيم المنطقة، بعد إعلانها ولادة الشرق الأوسط الجديد من قلب تل أبيب. وبوقاحة سياسية، تلاقت مع العدوان الصهيوني على لبنان، خرجت رايس بإعلانها عن ذلك المشروع لإعادة رسم المنطقة، بحيث شكلت حرب تموز أولى ركائزه، معلنة بوضوح، لا يقبل الشك، سعيها إلى صيغة جديدة لتلك الولادة، وإن ما يحصل هو مخاضها.

إلّا أن الهدف الذي لم تعلنه رايس كان سحق المقاومة في لبنان وسحب سلاحها وتنفيذ القرار 1559 والقضاء على العقبة الأولى أمام مشاريع تطويع المنطقة وصهينتها، للإطباق على لبنان وإنهاء دوره الرئيسي في التصدي لمشاريع التسوية الاستسلامية وفق الأجندة الأميركية والصهيونية والرجعية العربية منذ عام 1982 وإنهاء دوره المقاوم، تمهيداً لمحاصرة سوريا، الدولة العربية الأخيرة التي رفضت كلّ الضغوط والشروط والاملاءات الأميركية وكذلك الإغراءات المتعدّدة التي نقلها لها كولن باول عام 2003، فكان أن فرض عليها الانسحاب من لبنان لاحقاً تحت ضغط إغتيال رفيق الحريري عام 2005 والذي أتى في سياق تحضير لبنان والمنطقة والشرق الأوسط القديم لمناخ ولادة قيصرية لشرق أوسط أميركي الهوى، تكون فيه الغلبة للكيان الصهيوني على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية وشطب القضية الفلسطينية نهائياً.

إلّا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن ولا الأساطيل الأميركية والصهيونية، فبعد ثلاثة وثلاثين يوماً من المقاومة والصمود خرج لبنان مثبتّاً انتصاره في وجه عدو اعتاد الحروب والعمليات العسكرية الخاطفة، ففرض عليه حرباً طويلة لم يستطع من خلالها تحقيق أي من أهدافه العسكرية أو السياسية، فألحق الهزيمة بنخبة قواته فارضاً عليهم التقهقر في كل مواقع المواجهة، من عيتا الشعب ومارون الراس وبنت جبيل والطيبة ووادي الحجير والغندورية وصريفا إلى بعلبك والجمّالية، حيث امتزجت دماء المقاومين من مختلف الانتماءات السياسية والفكرية، من حزبنا الشيوعي اللبناني إلى حزب الله إلى حركة أمل، في أشرف وأنبل مواجهة ضد عدو استسهل دوماً بقدرات شعوبنا العربية عامةً وبإمكانيات شعبنا اللبناني خاصةً، وكتب فصولاً من الاضطهاد والتهجير والتنكيل والظلم بحق شعبنا العربي الفلسطيني في فلسطين المحتلة وفي الجولان السوري المحتل، إن هذه الدّماء الزاكية التي قدّمها المقاومون الشيوعيون في صريفا والجمالية في تلك الحرب، قدمت لانتصار لبنان عام 2006 المعنى والبعد الوطني للمقاومة في تصدّيها للعدوان؛ فتحية إجلال واكبار للشهداء والجرحى ولدمائهم التي كلّلت هذا الانتصار، والمجد والخلود لشهداء حزبنا الشيوعي اللبناني وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية واتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني، للرفاق الأبطال عوض جمال الدين، أحمد نجدي، حسن جمال الدين، محمد نجدي، علي نجدي، فؤاد الفوعاني، حسن كريم، ماكسيم جمال الدين، وطبيب الفقراء عبد الناصر فياض.

إن فشل المشروع الأميركي من تمرير أهدافه في لبنان عام 2006 لا يعني إطلاقاً أنه فرض تغييراً على المشروع  الأميركي الخاص بالشرق الأوسط الجديد الذي بشّرت به كونداليزا رايس، لا بل إن جميع الأحداث والتطورات التي تلت عدوان تموز في منطقتنا العربية والنتائج التي أفضت إليها، تؤكد مما لا يدع الشكّ إن المشروع الأميركي الصهيوني ثابت في أهدافه، وكل ما هنالك، أن أسلوب التنفيذ يتغيّر وفق المصالح الأميركية الصهيونية، من الأساليب القسرية إلى أخرى تدريجية، وإلى أخرى أقلّ عنفاً وذات نفس أطول، من الحروب الاستباقية، إلى الحروب الناعمة، إلى حروب الحصار الإقتصادي وحرب التجويع وحرب فرض العقوبات، كلها أساليب متعدّدة لهدف واحد، إخضاع منطقتنا وشعوبنا، وما صفقة العصر واتفاقات ابراهام والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وضمّ الجولان المحتل وتحقيق يهودية الدولة وهرولة أنظمة الخليج للتطبيع مع العدو، إلّا العنوان الأوضح والأبرز لطبيعة هذا المشروع الأميركي المتهالك في أكثرية ساحاتنا العربية.

إن صمود شعوبنا العربية، وبخاصة اللبناني والفلسطيني في التصدّي للعدوان الصهيوني المتربّص، أسس لمرحلة تاريخية جديدة، فتحت الآفاق إلى عالم متعدّد الأقطاب، تحتل فيه الصين اليوم الموقع الريادي في النمو الاقتصادي، وفتح الباب للاتحاد الروسي للعمل على استعادة دوره الاقليمي والدولي الذي خسره بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فما نعيشه اليوم من مرحلة انتقالية على المستوى الدولي والاقليمي يؤسس لشرق أوسط جديد بمعايير سياسية تختلف عن ما بشّرت وعملت عليه الإدارات الأميركية المتعاقبة، في حين يعمل العدو اليوم على تحويل ذلك الصمود إلى نقمة معيشية واقتصادية لإجهاض كل تلك الانتصارات والانجازات. إلّا أن هذا، لا يقلّل من عمق مسؤولية المنظومة الفاسدة المتسلّطة على شعبنا وعلى مؤسساته على المستوى اللبناني، ولا يخفّف من وطأة أزمة النظام البنيوية، التي فشل حراس هيكلها، حراس الطائف من تحقيق الحدّ الأدنى من شروط قيام وبناء الدولة الوطنية القادرة على احتضان تضحيات شعبنا اللبناني الكبيرة طيلة عقود في مواجهة الأطماع الامبريالية والصهيونية في وطننا، والتي فشلت أيضاً في تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم، وأبسط الحقوق بالصحة والتعليم والاستشفاء والعمل، بل على العكس من كلّ ذلك يستمر أصحاب السلطة، حراس النظام المتهالك، التمسّك بحصصهم وبتسوياتهم للتغطية على فسادهم وسرقاتهم ونهبهم طيلة ثلاثين عاماً، ما أدّى، إلى جانب الحصار المالي والاقتصادي المفروض أميركياً وعربياً على لبنان، إلى الإنهيار.

إن الإنهيار الاقتصادي والمالي، المسؤولة عنه منظومة تحالف حراس اتفاق الطائف والطغمة المالية، مثلث الأضلع، الضلع الأول: بنية النظام السياسي الطائفي والمذهبي ورموزه المتمسّكة بالحصص المذهبية والطائفية كأساس في تكوين السلطات الدستورية والتشريعية وتحالفها مع الطغمة المالية، من جمعية المصارف ومصرف لبنان ونهجهم المتبّع في السياسات المالية طيلة ثلاثين عاماً، والتي دمّرت الاقتصاد الوطني وحوّلته إلى اقتصاد ريعي أفقر الشعب اللبناني وأدّى بالوطن إلى الانهيار. والضلع الثاني، يتحمّل مسؤوليته القوى التي حملت على عاتقها خيار الإصلاح والتغيير وتفاهمت مع المقاومة على التغيير في بنية السلطة لمصلحة بناء الدولة، ففشلت هي الأخرى نتيجة تخلّيها عن خطابها الوطني والتمسّك بالحقوق الطائفية، فضاعت الحقوق ولم يسلم الوطن. من هنا نؤكد، بأن مسؤولية الدفاع عن الانجازات الوطنية في التحرير وفي الحفاظ على معادلة الردع القائمة، خاصة في ظلّ التحوّلات التاريخية التي تجري في منطقتنا، تفرض اتّباع نهجاً آخراً، يقوم على تحصين الجبهة الداخلية والوطنية وتحضيرها لأي مواجهة جديدة مع العدو، وأيضاً اعتماد نهج يلاقي تطلعات الشعب اللبناني الذي انتفض في السابع عشر من تشرين الأول، بقراءة موضوعية لها، ولأسبابها ولأزمة النظام وبنيته المذهبية، والعمل على بناء الدولة الوطنية. أما الضلع الثالث من الأزمة فهو غياب البديل، وهنا نتحمّل نحن جزءاً من المسؤولية، إلّا أن المسؤولية الوطنية تقتضي منا استكمال المبادرة من أجل إنهاء بناء الإئتلاف الوطني المعارض، مع القوى السياسية والشخصيات والمجموعات التي لم تتلوّث في الفساد وغير المرتبطة بأجندات خارجية ـ إضافة لساحات المناطق من خلال قيام أطر مناطقية ولجان شعبية، والتحالف الاجتماعي الذي أعلن عنه مؤخّراً والذي يغطّي البعد الاجتماعي والقطاعي والنقابي، من أجل إحداث موازين قوى تفرض بناء تلك المواجهة ضمن خطة وطنية تحمل مشروعاً سياسياً واقتصادياً بديلاً جدياً لنظام المافيات والفساد والتبعية والارتهان،  يمهدّ لمواجهة التحديات المقبلة ويفتح الآفاق في هذا النفق المظلم لإنقاذ ما تبقّى من إنجازات وطنية حقّقتها المقاومة في لبنان منذ إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية عام  1982إلى انتصار تموز 2006 الذي حقّقته المقاومة الاسلامية، ودماء مقاومي حزبنا الشيوعي الأبطال.

عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني