إشكاليات نظرية حول "17 تشرين" / الإشكالية الثالثة: التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية (الجزء الثاني)


5. التناقض الأساسي (المحدِّد):
يشير ماركس، في أحد المراجع الهامة التي أثارت جدلا واسعا، أن البشر ينسجون في إطار عملية إنتاجهم علاقات إنتاج تتطابق مع درجة تطور قواهم المنتجة. وهذا ما يشكل البنية الاقتصادية، أي قاعدة البنيان الفوقي الحقوقي والسياسي وأشكال معينة من الوعي الاجتماعي. إن التناقض في البنية الاقتصادية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج (أي علاقات المُلكية) تستدعي حقبة من الثورة الاجتماعية تقوم بتحويل القاعدة الاقتصادية وهدم الصرح العلوي . ويوضح انجلز أن المقصود بالبنية التحتية المحدِّدة للمجتمع هي العلاقات الاقتصادية أي الأسلوب الذي يُنتِج به الناس في المجتمع وسائل العيش ويتبادلون به المنتوجات - وكل تكنيك الإنتاج والنقل – الأمر الذي يحدِّد أسلوب توزيع المنتجات، وبالتالي، الانقسام إلى طبقات، وعلاقات السيطرة والخضوع، والدولة، والحق. واعتبر أن التطور السياسي، والحقوقي، والفلسفي، والديني، والأدبي، والفني، يرتكز على التطور الاقتصادي .


بناء عليه، يرى مهدي عامل أن التناقض الاقتصادي هو تناقض أساسي، محدد في النهاية، لبقية التناقضات في البنية الاجتماعية، وأنه الأساس المادي لكل تحرك للصراع الطبقي. وأن بين البناءين التحتي والفوقي علاقة توافق بنيوي «يحدده في النهاية التوافق البنيوي في علاقة طرفي البناء التحتي نفسه، أي في علاقة القوى المنتجة بعلاقات الإنتاج». لذلك، تسعى الطبقة المسيطرة في ممارستها للصراع الطبقي أن تعيد إنتاج سيطرتها عبر الحفاظ على التوافق بين البنيتين التحتية والفوقية وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج القائمة في المجتمع. وبالتالي، فإن «كسر علاقة التوافق بين البناءين لا يتم بشكل آلي وبفعل تطور القوى المنتجة، وإن كان تطور هذه القوى هو الذي يحدده في النهاية، بل يتحقق في عملية معقدة داخل حقل الصراع الطبقي وبفعل هذا الصراع نفسه». معنى هذا أن تغيير الأساس الاقتصادي لا يتحقق إلا بفعل الثورة والانتقال بالبنية الاجتماعية من نظام إنتاج إلى آخر. وهذا ما يميّز نظرية مهدي عامل عن النظريات الاقتصادوية والإصلاحية من ناحية، وعن تلك الإرادوية والذاتية من ناحية أخرى.
كما أشار مهدي عامل إلى الفرق المفهومي بين "التناقض الاقتصادي" و"الممارسة الاقتصادية"، معتبرا أن الممارسة الاقتصادية هي ممارسة محددة للصراع الطبقي (هو في حقيقته الاجتماعية صراع سياسي)، قائم بين الممارسة الاقتصادية للطبقة المسيطرة والممارسة الاقتصادية للطبقة العاملة، وموضوعه علاقة الاستغلال الطبقي.
6. التناقض الرئيسي (المسيطر):
إن التعبير الأوضح عن أن المستوى السياسي في البنية الاجتماعية هو المستوى (أو قل التناقض) المسيطر، وأن التناقض السياسي هو دوما التناقض الرئيسي، نجده في هذا التكثيف النظري لدى مهدي عامل: «إن السيطرة في تطور التناقضات البنيوية، في إطار التناقض الأساسي المحدد لتطورها، تعود دوما، في البنية الاجتماعية الطبقية، إلى التناقض السياسي، أي إن التناقض الرئيسي في تطور البنية الطبقية نجده دوما على المستوى السياسي في هذه البنية».
لذلك، كان مهدي عامل يرى أن العلاقة بين مستويات البنية الاجتماعية، أي بين البنائين التحتي والفوقي، تمر بالضرورة عبر ممارسة الصراع الطبقي، أي أن حركة التطور التاريخي للواقع الاجتماعي هي تلك "الحركة المحورية" للصراع الطبقي. وهذا "المحور" لتطور التناقضات وتنقلها بين المستويات البنيوية هو دوما التناقض السياسي، لأنه يُعبّر عن التناقض الطبقي بين الممارسات السياسية المختلفة للصراع الطبقي (للطبقة المسيطرة أو الطبقة النقيض). وبالتالي، فإن مختلف حقول الصراع الطبقي (الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي)، هي أشكال مختلفة للتناقض السياسي.
كما يختلف شكل سيطرة التناقض السياسي (المسيطر)، بمعنى اختلاف شكل علاقة السيطرة التي تربط التناقض السياسي ببقية التناقضات البنيوية، بحسب اختلاف "الطرف المسيطر" في التناقض السياسي ذاته. وبما أن التناقض السياسي هو تناقض بين ممارستين سياسيتين مختلفتين: (1) ممارسة الطبقة المسيطرة أو التحالف الطبقي المسيطر؛ و(2) ممارسة الطبقة الثورية أو التحالف الطبقي الثوري؛ فإن اختلاف الطرف المسيطر في التناقض السياسي يؤدي إلى "اختلاف جذري"، بحسب مهدي عامل، في شكل تحرك التناقض السياسي من ناحية، وفي شكل تحرك باقي التناقضات البنيوية في علاقتها المحورية بالتناقض السياسي نفسه، من ناحية ثانية.
لا يكفي القول بتثبيت التناقض السياسي كتناقض رئيسي في البنية الاجتماعية، بل يجب التمييز بين هذا في الإطار البنيوي الثابت، وبين تنقل المظاهر الرئيسية للتناقض السياسي من مستوى بنيوي إلى آخر في تمرحل حركة تطور البنية الاجتماعية. أو بحسب مهدي عامل: «فالتنقل إذن، بين المستويات البنيوية للبنية الاجتماعية ليس للتناقض الرئيسي نفسه، بل لمظاهره». وهذا التنقل مرتبط أصلا بتطور التناقض الرئيسي كتناقض سياسي مسيطر في تطور البنية الاجتماعية، أي «أن تطور التناقض السياسي كتناقض رئيسي مسيطر، أي إن تطور صراع الطبقات، هو الذي يحدد تنقل المظهر الرئيسي للتناقض الرئيسي بين مستويات البنية الاجتماعية». وفي معرض حديثه عن أزمنة البنية الاجتماعية، يقول مهدي عامل: «إن التناقض المسيطر في تطور البنية الاجتماعية هو دوماً التناقض السياسي، غير أن الشكل الرئيسي فيه لا يكون سياسياً إلّا في إطار زمان القطع الثوري».
وبالنسبة لمهدي عامل، تُحل الأزمة العامة لسيطرة الطبقة المسيطرة، عند تكثف الصراع الطبقي في حقله السياسي بالذات، «في شروط تاريخية محددة من تطور الصراع الطبقي، تكون فيها الطبقة العاملة، في قيادة التحالف الطبقي الثوري، بالفعل قادرة على خوض الصراع الطبقي في شكله السياسي الحقيقي»، كصراع سياسي مباشر. حينها «يتحرك الصراع الطبقي في شكله الرئيسي كصراع سياسي، تكون الممارسة السياسية للطبقات الخاضعة لسيطرة الطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة في تطور الصراع الطبقي، أي القوة السياسية التي تدفع تطور البنية الاجتماعية إلى خرق إطاره البنيوي الثابت». في هذه اللحظة الثورية، يصير التناقض السياسي «مركزا لتجمع التناقضات الاجتماعية كلها، أي البؤرة التي تنصهر فيها هذه التناقضات بشكل يجعل من حل التناقض السياسي شرطا مطلقا لحلها». وبالتالي، يخلص مهدي عامل للقول، أن «الممارسة السياسية للطبقة الثورية هي العامل الحاسم إذن، في هذا التسييس للتناقضات الاجتماعية الذي هو تجذير لها».
وهذا الطرح النظري يختلف - في كلّيته - مع طرح ماو تسي تونغ الذي يحصر علاقة التفاوت بين التناقضات في علاقة السيطرة، الأمر الذي يؤدي إلى "التضخم السياسي"، وإلى تأويل إرادي للتطور التاريخي، كما ورد في نقد مهدي عامل.
7. التناقضات الثانوية:
يقول ماو: «لا يجوز لنا أن نعامل جميع التناقضات الموجودة في عملية ما على قدم المساواة، بل لا بد لنا أن نميّز بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية».
كما سبق وألمحنا، أن المجتمع ينقسم إلى طبقات، وكل من هذه الطبقات تنقسم بدورها إلى فئات اجتماعية مختلفة. لكن، للبنية الاجتماعية طبقتين رئيسيتين: (1) الفئة المهيمنة من الطبقة المسيطرة أو الطبقة المهيمنة في التحالف الطبقي المسيطر؛ و(2) الطبقة العاملة وهي الطبقة المهيمنة النقيض. وبحسب مهدي عامل فإن ممارستي هاتين الطبقتين الرئيسيتين تشكلان "قطبي" الحقل السياسي للصراع الطبقي، وأن تحديد التناقض السياسي، هو في أساسه، بين ممارستيهما السياسيتين. إن «هيمنة الفئة المهيمنة في الطبقة المسيطرة أساس لوحدة الطبقة المسيطرة ولبقائها في وجه الطبقة الثورية، كما أن هيمنة الطبقة المهيمنة في التحالف الطبقي المسيطر أساس لوجود هذا التحالف في وحدته، في وجه التحالف الطبقي الثوري».
لذلك، فإن «كل طرف من طرفي التناقض الرئيسي يضم أطرافاً متعددة تتحدد العلاقات بينها كتناقضات ثانوية ... غير أن هذه القوى الطبقية المتحالفة، في كل طرف من طرفي التناقض الرئيسي، ليست قوى متساوية ... فالتفاوت إذن، موجود بالضرورة بينها، وهو أساسي لوجود التناقض الرئيسي نفسه كتناقض مسيطر». أي أن «كل طرف منه في الحقيقة هو في حد ذاته وحدة تناقضية معقدة تضم عناصر مختلفة تخضع في تطور علاقاتها داخل وحدتها، أي في تطور تناقضاتها الثانوية، لتطور علاقة الاختلاف الرئيسية التي تضعها في مجابهة الطرف الآخر من التناقض الرئيسي، كما أن تطور علاقة الاختلاف الرئيسية هذه تخضع بدورها، في صيرورتها بالذات، لتطور علاقات التناقض الثانوي بين عناصر كل من طرفي التناقض الرئيسي».
ثم يميّز مهدي عامل بين أزمتين سياسيتين: (1) أزمة "هيمنة طبقية"، تتحدد بالنسبة للتناقض الثانوي بين فئات الطبقة المسيطرة (أو التحالف الطبقي المسيطر)؛ و(2) أزمة "سيطرة طبقية" تتحدد بالنسبة للتناقض الرئيسي بين الطبقة المسيطرة والطبقة النقيضة. الأزمة الأولى قد تنحصر في التناقض الثانوي بين فئات الطبقة المسيطرة، فتؤدي إلى تغيير في علاقة الهيمنة بينها من غير أن يضع سيطرة هذه الطبقة في أزمة. أما الأزمة الثانية، فتقود إلى أزمة في تطور علاقة السيطرة بين طرفي التناقض الرئيسي المسيطر. وبحسب مهدي عامل، فإن «كل أزمة سيطرة طبقية هي بالضرورة أزمة هيمنة طبقية، لكن العكس غير صحيح».
وبما أن مراحل تطور البنية الاجتماعية يحددها التغيّر في علاقة السيطرة بين التناقضات الثانوية في كل من التحالفين الطبقيين الرئيسيين، فإن الحل الثوري للتناقض الرئيسي يستوجب السيطرة الطبقية للطبقة الثورية في التحالف الثوري. أي أنه يتوقف على مقدرة الطبقة العاملة على الوصول - في ممارستها السياسية الثورية - إلى قيادة التحالف الطبقي النقيض، كشرط ضروري لوصولها إلى السيطرة داخل الحقل السياسي للصراع الطبقي.
8. الخاتمة:
بعد أن بحث مهدي عامل حول مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي الذي يميّز مجتمعنا الرأسمالي التبعي، تبيّن له «إن سيطرة الاستعمار على البلدان "المتخلفة" قائمة في وجود علاقات الإنتاج نفسها في هذه البلدان، كعلاقات إنتاج كولونيالية. فالسيطرة الاستعمارية الحقيقية، أي تبعية هذه البلدان للاستعمار، متمثلة في الإطار الاجتماعي نفسه للإنتاج الكولونيالي، أي في العلاقات الطبقية الخاصة بالبنية الاجتماعية الكولونيالية، وليست في الوجود المباشر للاستعمار في هذه البلدان، كوجود عسكري أو اقتصادي، وإن كان هذا الوجود المباشر فعليا».
في الختام، يبقى أن نشير إلى واقع أن اختلاق معركة نظرية حول تحديد التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية هو أقرب إلى تحريف هذه المفاهيم منه إلى تحديدها؛ ويبدو أنه خيار غير موفق، نابع من وهم أيديولوجي أكثر منه من موقع المعرفة النظرية.
في العدد القادم ، نطرح الإشكالية النظرية الرابعة: العلاقة الديالكتيكية بين التناقضات الداخلية والخارجية.