بين تحقيق المرفأ والانتفاضة: استنفار أحزاب السلطة

مرّ عامان على انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول الشعبية في لبنان، غير أن المشهد لا يزال هو نفسه، لا بل يزداد سوءاً، فالمنظومة التقليدية لا تزال تحكم البلد بالسلاح والفساد، وتنهب المال العام من دون أي رادع أو محاسبة، بينما الشعب الذي يرزح تحت أسوأ أزمة اقتصادية، يُجوَّع ويُذل ويُسرَق ويُهجَّر، وأخيراً يُفجَّر، وتُمنع محاسبة المتورطين، كما يحصل الآن من خلال الضغط لإطاحة المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق بيطار، حتى لو تطلب ذلك، التهديد بانفلات أمني واندلاع إشتباكات داخل بيروت، وخلق شارعين متقابلين، وإفتعال إقتتال أهلي "مصغّر" كما كان المشهد عليه قبل أيام في العاصمة. لا بل إن الأحزاب سارعت لاستغلال هذا القتال لاستعادة شعبيتها، عبر شدّ عصب جمهورها، قبيل الانتخابات النيابية المقررة في الربيع المقبل، وما بعدها الرئاسية. وفيما يتكرر شعار "إسقاط الطبقة السياسية" عند كل تحرك، وتتعالى المطالب بـ"محاسبة المسؤولين عن انهيار البلد"، وصولاً إلى الدعوة لمعاقبة المسؤولين عن انفجار مرفأ بيروت المدمر الذي وقع في 4 أغسطس/آب من العام الماضي، وخلّف أكثر من 200 قتيل وآلاف الجرحى، وغيرها من الهتافات التي يرحل صداها مع إنتهاء التحركات، يبقى السياسيون في مواقعهم، مسيطرين مع المصارف، على مواقع ومراكز الدولة، لا بل منتفضين في وجه القضاء عندما يقترب من "هالتهم"، فيسارعون إلى التجييش والتهويل واللعب على وتر الفتنة والطائفية، وتعزيز نظريات المؤامرة والاستهداف. 

فشل الإنتفاضة الشعبية
إنّ الدعم الشعبي الذي تلقّته ثورة 17 تشرين كان كبيراً لأنّ الفقر والفساد والبطالة والغلاء أصابت غالبية الطبقة الوسطى وجميع أفراد الطبقة الفقيرة. في حين أنّ هذه الثورة قد أقلقت الطبقة الميسورة لأنها أصبحت تعيش في حالة خوف شديد على مصالحها، وممّا قد يصدر ضدّها كردّة فعل عن كل من فقد عمله أو عجِزَ عن تأمين حاجياته الأساسية.
في المبدأ، يمكن القول إنّ من شروط نجاح أي ثورة توافر العناصر التالية:
- سيطرة الثورة أو الثوّار على كامل أراضي الدولة أو على القسم الأكبر منها.
- حصول الثورة على دعم غالبية الشعب سواء كان في الواقع De Facto أو في الانتخابات De Jure.
- وجود دلائل واضحة على قدرة قادة الثورة على تولّي الحكم والاستمرار فيه.
لكنّ الوقائع تشير إلى أنّ الثورة لم تحقق أي شرط من الشروط الثلاثة أعلاه، لأنها لم تسيطر عملياً حتى على القسم الأكبر من الدولة. كما لم تحصل على دعم غالبية الشعب سواء كان في الواقع أو في الانتخابات التي لم تحصل بعد. وبالتالي فإنّ هذه الثورة لم تنتج أي قائد أو قادة بارزين أظهروا شغفاً استطاع جذب أنصار الثورة وغيرهم من المواطنين.
إنّ ما قام به شباب وشابات لبنان في 17 تشرين الأول عمل طبَع تاريخ لبنان السياسي الذي لم يشهد مثيلاً له سواء كان من حيث جرأة المنتفضين في انتقاد وتحدّي السلطة أو من حيث تسليط الأضواء على فداحة الفساد والإهمال الحاصل في إدارة الأموال العامة، وكذلك على فشل الحكومات في حلّ مشاكل الكهرباء وإصلاح البنية التحتية وأزمة البطالة وغلاء أسعار المواد الاستهلاكية وتصاعد حجم الدين العام.

قمع إنتفاضة ١٧ تشرين.. وحتى في ذكراها.

تهديدات و اعتداءآت بالجملة على الناشطين العزّل في منطقة صور
في ١٥ تشرين ٢٠٢١ : اعتداء من قبل ملثمين على معن حلاوي في صور.
بعدها ب ساعة تهجم و تهديد من قبل عناصر في حركة أمل بالقتل للنشاطين حاتم حلاوي ومهدي كريّم بعد توجههما للاطلاع على تسجيلات فيديو الاعتداء الاول.
١٦ تشرين ٢٠٢١ ظهراً: الاعتداء بالسكاكين والعصي على الناشط حسن حجازي  في  بلدة معركة من قبل عناصر من حركة أمل.
١٦ تشرين ٢٠٢١ عصراً، إحتلال ساحة العلم قبل ساعة من إعتصام معلن  لثوار ساحة العلم ومنع إقامته وإطلاق شعارات مذهبية و التهجم لفظيًا على الناشط رائد عطايا.
كل ما سبق وغيره يوحي بجنون أحزاب السلطة و استغلال دم الشهداء للانتقام من أي شخص يطالب هذه السلطة الفاسدة السارقة القاتلة المتلاعبة بالسلم الأهلي بالرحيل.
إذ، طوّرت السلطة اللبنانية وقواها الأمنية أساليب القمع سريعاً. فخلال فترة الإنتفاضة كانت قوى مكافحة الشغب قد استنفدت كل مخزونها وأساليبها لقمع المحتجّين، بالغاز المسيل للدموع والهراوات والملاحقات وإقفال المناطق. فلجأت بعدها إلى المؤسسة العسكرية التي عملت على التعامل بضراوة مع حالات الاحتجاج وقطع الطرق سلمياً. وبين السيناريوين، تكفّلت مجموعات الشبيحة التابعة لأحزاب السلطة بممارسة البلطجة. بالإضافة، استخدمت الأجهزة الأمنية الخردق وبنادق الصيد مباشرة على المتظاهرين. حتى أنّ عناصر فيها لجؤوا إلى إطلاق الرصاص الحيّ، وهو ما وثّقته منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقاريرها لشهر أب ٢٠٢٠. حصل ذلك، بعد جريمة 4 آب. فمن لم يصب بالتفجير، لاحقته عناصر أمنية بين ساحة الشهداء والصيفي، كما سجّل استخدام قنابل خردق للمرة الأولى في الشهر نفسه. وحسب منظمات حقوق الإنسان، استخدمت الدولة اللبنانية قوة مفرطة وقاتلة في بعض الأحيان ضد المدنيين العزّل. وعدا الخردق والرصاص الحي والمطاطي، أطلقت القوى الأمنية قنابل الغاز المسيل للدموع مباشرة على الجموع. كما أساءت استخدام بعض أصناف هذه القنابل، التي تفرض المعايير رميها عن بعد مئات الأمتار. فأطلقتها على سيارات إسعاف ومسعفين. 

أحزاب النظام الطائفي في مواجهة الإنتفاضة 

عندما يتهجَّم رموز النظام الطائفي على انتفاضة أبناء الشعب اللبناني، ويهاجمونهم في الساحات، فهم بذلك لا يقاومون هذه الانتفاضة والحراك المطلبي، إنهم لا يفعلون شيئاً سوى مقاومة سقوطهم أنفسهم أو تأجيله. سقوطهم هو سقوط النظام اللبناني الطائفي الذي توافق عليه أفرقاء الحرب الأهلية الذين غيَّروا لباسهم الحربي فارتدوا البذات الرسمية، ناقلين الحرب من الشوارع وجبهات القتال إلى داخل البرلمان والحكومة، عبر تحاصص مغانم السلطة والعقود والتعيينات. بالمناسبة أدّت أحزاب السلطة، في الحكومة والبرلمان، دور البلطجة بامتياز. بدأ نموذج التشبيح بالظهور في الأسبوع الأول من انطلاقة الثورة. بعد أن عجزت قوى مكافحة الشغب عن ردع الناس وفض اعتصاماتها في بيروت ومختلف المناطق، نزل "قمصان السود" إلى ساحتي بيروت. ضربوا الناس، أحرقوا الخيام، كسّروا معدّات الصوت، اشتبكوا حتى مع العناصر الأمنية التي تقف إلى جانبهم في عملية قمع الجموع. كان الدافع الأساسي، "السيّد حسن نصر الله غير كل الزعماء". إلا أنّ الهدف الفعلي من كل هذا التطويع، التأكيد لرئيس الحكومة حينها سعد الحريري أنّ الأرض تحت السيطرة ولا داعٍ للسير في الاستقالة. وفي هذه الحركة أيضاً رسالة إلى الحريري وسائر مكوّنات السلطة أنّ الأمور متّجهة إلى فوضى عارمة في الشارع: فتمسّكوا بالقرار والسلطة والمناصب واتركوا قمع الناس علينا. وعادة ما تنجح رسائل مماثلة في كبت أي جموح سياسي خارج عن إرادة الحزب، إلا أنّ هذا لم يحصل فعلياً في تجربة 17 تشرين، فاستمرّت التحركات، لا بل توسّعت. 

بناءً على ما تقدم، لا بد اليوم من دراسة أسباب فشل الإنتفاضة والسعي إلى رص الصفوف من جديد لإستكمال أو إعادة إحياء هذه الإنتفاضة الشعبية وتشكيل برنامج متكامل، والعمل على قلب الموازين لصالح الشعب في الإستحقاقات القادمة لإستكمال عملية التغيير وهدم هذا النظام فوق رؤوسهم.