مهدي عامل: ثورة في فكر التحرر الوطني

مهدي عامل ، مفكر ومناضل ماركسي لبناني – عربي قدم نظريته الثورية في فلسفة التحرر الوطني العربية وفي الممارسة السياسية، وأبدع في النقد الفكري الثوري. ولضرورات دقة المرحلة السياسية الراهنة في لبنان والمنطقة العربية وتعقيداتها، وبمناسبة الذكرى 36 لإغتيال هذا المفكر، لا بد من إنعاش الذاكرة وتحريك الفكر للإضاءة على أبرز اطروحاته الفكرية والسياسية المرتبطة بالازمة اللبنانية والتي تجلت في:" النظرية في الممارسة السياسية " (كتاب بحثي في أسباب الحرب الاهلية في لبنان). وكتاب "مدخل إلى نقض الفكر الطائفي". وكتاب " في الدولة الطائفية".

وهذا الأخير، تحديداً، رسم فيه "مهدي عامل" الحد الفاصل والقاطع بين الفكر البرجوازي– الطائفي المهيمن، وبين الفكر الثوري ومشروعه للتحررالوطني والاجتماعي. هذا الحد الثوري القاطع،استدعى،بالمقابل،إستنفار الفكر العدمي الرجعي الذي أقام عليه الحًد الظلامي الفاصل بالتصفية. ليسقط المفكر "مهدي عامل" شهيداً مضرجاً بدمائه في شارع الجزائر في العاصمة بيروت بتاريخ 18 أيار/ مايو 1987. وليحيا فكره الثوري بمؤلفاته وكتاباته ونقاشاته النقدية، وتصبح بعض أقواله المأثورة عل كل شفة ولسان في لبنان والوطن العربي والعالم.
"لست مهزوماً ما دمت تقاوم" هو قول مأثور للشهيد مهدي عامل عبر من خلاله عن مفهومه الثوري لمشروع حركة التحرر الوطني العربية.
فالتحرر الوطني والطبقي، شكل أحد محاور الانتاج الفكري له، وإشتغل عليه بحرفية ماركسية وبوعي ثوري شديد من خلال إخضاع الفكر للنقد، ثم تحديد مسار نقد الفكر بطبيعة الممارسة التي يقوم عليها هذا الفكر. وقد شكـل هذا العمل نقطة الإنطلاق للبحث عن الحقيقة الموضوعية التاريخية في حقل الصراع الطبقي. وفي مسيرة رحلة البحث وحركتها قراءة معمقة للواقع وتحليله. بحيث، مكنًه من التمييز في قراءاته واستنتاجاته بين نوعين من الممارسة في الفكر، وهما: الممارسة الأيديولوجية – السياسية والممارسة النظرية. ليقينه، أن لكل منهما منطق تطورها الخاص، محددأ الاختلاف بين ممارسة الفكر الماركسي من جهة، وبين ممارسة الفكر البرجوازي من جهة ثانية، بسببين رئيسيين: الأول، وعيها بأسس النظرية الماركسية ومضامينها. والثاني، قدرتها على تعرية المنطق البرجوازي وممارساته وخفايا مصالحه. وهذا يعني قدرة الفكر الثوري على كشف الحقيقة الموضوعية، في شروط محددة، أي، كشف "حقيقة الصراع الطبقي" في حركة تاريخيته.
عند هذا الكشف الثوري، دخل "مهدي عامل" إلى "مسألة الطائفية في لبنان" متناولاً المفهومين: البرجوازي ونقيضه الثوري. ففي تشريحه للمفهوم البرجوازي عام 1986، حلل بنية الطبقة البرجوازية اللبنانية وطبيعتها، التي ترى وفق "منطقها" أن في خلق التوازن الطائفي تقوم دولتها، وتدوم به. وفي حال إختلال هذا التوزان تتهدد طبقتها ودولتها. وإن تفككت الدولة، فإن دورها كراعية لمصالحها الطبقية من خلال ادارة مصالح طوائفها تتعطل، وبالتالي، يتهدد حكمها. وعندها يدخل (تدخله هذه الطبقة المسيطرة) المجتمع في أزمة تعايش بين الطوائف: إما للنزوع نحو استقلال لكل طائفة بحكمها الذاتي (طرح الفيدرالية اليوم)، وإما عودة إلى المشاركة (المحاصصة الطائفية). ليخلص إلى تحديد مفهوم "الطائفة" في الفكر البرجوازي، بأنها كيان مستقل في ذاته، متماسك في لحمته الداخلية. لذلك توصل إلى قناعة بأن العلاقة بين الطوائف هي علاقة خارجية (تبعية)، ولا وحدة بينها سوى ما تقيمه الدولة من أطر لتعايشها السلمي.

هذا التحليل الفكري الثوري، أثبت التاريخ صحته. فالطبقة البرجوازية الطائفية المسيطرة لم يتبدل مفهومها، ولم يتغير نهجها، بعد الحرب الاهلية وإتفاق الطائف 1989- التحرير من المحتل الصهيوني دون قيد أو شرط عام 2000 – الإنقسام السياسي الآذاري بعد الانسحاب السوري 2005 - إنتصار تموز 2006 ضد العدوان الصهيوني – الاحداث في سوريا والمنطقة – الإنتفاضة الشعبية في تشرين الأول عام 2019- إنفجار المرفأ- ادى كل ذلك إلى المزيد من تفاقم الازمة الوطنية - السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والمعيشية - التي تترافق مع إنهيار الدولة ومؤسساتها،وعجز الطبقة البرجوازية المسيطرة بمؤسساتها وأحزابها الطائفية على انتخاب رئيس للجمهورية، أو القدرة على إجراء إنتخابات بلدية واختيارية .. الخ). لأنها طبقة برجوازية طفيلية تابعة، لا تشبه صفة من صفات البرجوازية الوطنية. وبالتالي، فإن المراهنة عليها أو على طرف من أطرافها للقيام بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية وطنية أولية تعد مراهقة سياسية وترف فكري وخيانة طبقية للقوى العاملة والجماهير الشعبية.
اما “الطائفية” في المفهوم النقيض، فحدده بالشكل التاريخي للنظام السياسي الذي تمارس فيه البرجوازية سيطرتها الطبقية، بمعنى تحديد التناغم بين هذا النظام السياسي، وبين شكله التاريخي- الطائفي، وعلاقة التلازم البنيوية القائمة بينهما.
من هنا، خلٌص، إلى المفهوم القائل بأن "الشكل الطائفي" ممكن له إقامة دولة برجوازية، لأن هذا الشكل يسمح للبرجوازية التحكم في مجرى الصراع الطبقي عن طريق إبقاء الطبقة العاملة والفئات الشعبية الكادحة فيه أسيرة علاقة من التبعية الطبقية، وهي بالتحديد علاقة تمثيل طائفي تربط الطبقات بممثليها الطائفيين من البرجوازية اللبنانية ربطاً تفقد به وجودها السياسي كقوة مستقلة، لتكتسب وجوداً آخر، هو وجودها كطوائف. بحيث تفقد الطبقة العاملة والفئات الكادحة قوتها الطبقية المناهضة للبرجوازية. وهذا ما يوفرللطبقة البرجوازية ديمومة السيطرة، عبر تأمينها فرص التجديد لنظامها الطائفي من خلال قانون الإنتخاب الطائفي، والأحوال الشخصية الطائفية ، التعليم والثقافة الطائفيين. ما يعني خلق فوارق تمييزية طائفية في جوهرها فوارق اجتماعية وجندرية ..الخ) وعدة الشغل هذه، أساسية وضرورية لبناء قواعد متينة للنظام السياسي – الطائفي، تستند عليها الطبقة البرجوازية المسيطرة لتأبيد حكمها في دولتها.
لقد كشف"مهدي عامل" خلال مسيرته الفكرية والنضالية عن وهمية المشاركة الطائفية في السلطة التي يستتبعها استحالة قيام الدولة. ثم وهمية التوزان الطائفي (اعادة توزيع المحاصصة الطبقية – الطائفية)، ووهمية عملية الإصلاح التي تطرحه الطبقة البرجوزاية من موقعها القوي في علاقتها بنقيضها الطائفي ومن موقع وجودها في السلطة. واستخلص أن الاصلاح الجذري هو الذي تفرضه قوى التغيير الثورية المناهضة للطبقة البرجوازية ونظامها السياسي الطائفي التبعي، والمناهضة في آن للمشروع الاستعماري الإمبريالي- الصهيوني الجديد واستهدافاته في المنطقة العربية.
*****
لم يتوقف الشهيد مهدي عامل في رحلتة النظرية والنضالية ، كمفكر ومناضل ومقاوم عن الغوص في عمق حركة التناقضات. ويصادف أنه سأل قبل لحظات من اغتياله، هل نحن في زمن الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة !.لكن رصاصات الحقد الظلامية حالت دون إجابة شهيد الفكر والبحث العلمي والرأي والكلمة، البارع في تفنيد النصوص وتشريحها وتركيبها بثقافته العلمية،ونقده الثوري، ولغته الفلسفية الماركسية ببصمة "عاملية" التي أحدثت ثورة معرفية للثورة التحررية العربية. لكن أعداء الفكر العلمي والثورة والتغيير كانوا بالمرصاد. وقبله، كانوا بالمرصاد للمفكر الشهيد حسين مروة، والشهيد سهيل طويله، والشهيد خليل نعوس..، وقبلهم، الشهيد فرج الله الحلو. وبعدهم، الشهيد جورج حاوي..وغيرهم. ما يعني استهداف الفكر الماركسي الثوري العربي، واستهداف الحزب الشيوعي اللبناني ومشروعه السياسي الوطني ومقاومته الوطنية، الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من مشروع حركة التحرر الوطني العربية الثورية الشاملة.
تركة مهدي عامل النظرية والفكرية والسياسية والثقافية الغنية ترشدنا إلى حيث يجب أن نناضل ونعمل كقوى شيوعية ويسارية للنهوض بمشروع حركة التحرر الوطني العربية الثورية من أجل التحرير والتغيير الديمقراطي على طريق الاشتراكية.
تحية رفاقية للرفيق المناضل" طارق" والمفكر الماركسي الثوري"مهدي عامل" والاستاذ الجامعي الدكتور حسن حمدان. حقاً، لقد أحدثت ثورة في فكر التحرر الوطني العربي.
16/5/2023

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 415
`


سمير دياب