حوار الصواعق

 

سرَتْ شائعاتٌ عن وصول دفعةٍ من النساء والرجال والصبية والفتيات الصغار، إلى ذلك الميناء الواقع في الزمن القديم، حيث هُرع الناس لمشاهدة هؤلاء المختلفي الألوان والأعراق، كما لو عرضٌ مسرحيٌّ، تجري أحداثه، ابتداءً من لحظة وقْعِ الأقدام على الأرض، حتّى تهيئتهم، وإعدادهم، لعرضهم للبيع في سوق النخاسة.

السوق، الواقعة في وسط المدينة، يقع قبالتها محكمة العدل والمساواة، ومجموعة بيوت هي عبارة عن بيتٍ لكلّ مِلّةِ ما، كذلك يقع شارع بائعات الهوى، مشهدٌ يسبّبُ الحزنَ العميق، ذلك القلق والتوتر المُعبّران عن انهيار منظومة الأخلاق، أنتجت بشريةً خَرِبةً، محكومةً بذهُانٍ نقيضِ مَتَعطِّشٍ لنحر المرايا.
في السوق، كُتَلّ بشريةٌ، كأنّما غاباتٌ تتداخل في ما بينها، ثمّ لا تلبث أن تنقشعَ بعض غيماتٍ ملقاةٍ تحت شمس الوحشة. ثمة حركةٌ وظيفية مُهدَّدةٌ بتحوّلاتِ، تُعيدُ فينا نبشَ الحكايةِ وحركةَ التاريخ والتوزيعَ الديموغرافي.

البائسون، الذين أحزمة المدن، يخشون احتضار الرغيف، حبّة الدواء والماء، لكنّها الحياة تأبى انفراط عقدها، تؤكّد على مقوّماتها وطاقتها الهائلة، وليس بالأمر المُستغرب، كيف يقضي البشر جوعاً وعطشاً، كيف من يمضي لأجل الثوابت والمبادئ، كيف يزحف الكثيرون إلى حتوفهم، يحتسون سكرات الموت، يقضون معنوياً في حفلات الخضوع والإذعان، ولأنهم أقوياء يعتقدون بكسر جمع المؤنث السالم والمذكر.
وقفتُ أمام نصب الشُّهداء، لا تزال ترافقني تلك اليد المرفوعة، تأخذ بي إلى ساحة اورليون، أتسمّرُ مندهشاً أمام ثمثال القديسة جاندراك، وقد باعدت ما بيننا المنايا، أسائلنُي، هل جئتها بطلبٍ منها، برغبة منّي دفينة، ربّما لا تختلف الفكرة عن الأخرى، خلف العينين رؤىً لإرثِ إنسانيٍّ ذاتيِّ النزعةِ والإرادة، لكأنّي إبداع زرقاء اليمامة، لكأنّي، حيث ولِدَ المسيح، يمسح على رأسي وقلبي وروحي، حيث غيفارا لمّا يزل ساجياً فوق الثرى، حيث الطفوف... ورأس السماء المُعلَّق على عود الأسطورة... منها، وقد خرج علينا أشباه الشرور، لا أنسى أنّي سمعتُ هاتي الأحاديث قبل أن أجيء إلى الدُّنيا، وبيدي طبشورة وممحاة، خلف السُّبورةِ أفكارٌ لا حصرَ لها، معادلات الرياضيات، ولأنها الفيزياء تُكتَشف، يعجز جنسنا عن اكتشاف، أو فكِّ معضلتنا الوجودية.

تحت شجرة الحياة، تقع أقوامٌ تطوّرت أساليب الغزو والسلب لديها. ونحن في عصر التكنولوجيا، شياطينها المُعمِّرةُ، كسرتْ حلقاتِ الزّمن، جيوشها في كلِّ الحروب الكونية، لكأنّا معشرُ البشرِ صنو القتل والتهجير، نخضع لسوق الأساطير. عن حروب الكفر، ألعاب الكترونية تساعد على متابعة عوالمها، نحاول زركشةَ الحُلُمِ والأمل، وهما كائنان في مخيمات الشتاء والصيف، عن تلك الرحلات، إسقاطاتٌ تراجيديّة، مٌعلّقات سوق عكاظ، تأمّلات نيرون، كيف حوّل الحياة إلى رماد، كيف سور الصين العظيم لم يمنع الغزاة، للرشوة أجنحة، كما لأفكار العظماء؛ فلا ينتاب ابن رشدٍ القلق، لكنّه العقل، حبيس الخزائن الحديدية، تحت الأرض، فوقها خرائط العالم الجديد لأسواق النخاسة، تُصيبُ صواعقها أرضاً جوّاً، حوارات تتساقط أوراقها، في أيِّ عصرٍ صرنا، لا روزنامة واحدة...!!