عرسال: آثار الحرب في ٣٠٠ كيلومتر مربع (3)

حوالي خمسة إلى ستة ملايين نازح في سوريا ، كحال فاطمة التي سنعرض قصّتها، اضطروا لأن يغادروا بلادهم لئلا يموتوا في حرب عمرها أكثر من ثماني سنوات. فغادروا بيوتهم حاملين ما استطاعوا فوق أكتافهم، عبروا الجبال والضوابط العسكرية، الخضوع لإجراءات حدودية صعبة أو ببساطة ضغط المسؤولية المترتب عليها حتى لا تتعرّض هي أو عائلتها للخطر، ولا ننسى كونها أمرأة أرملة ومشرّدة.

ترحيب ولا أحر...
آخر شيء تفكّر فيه فاطمة كلّ ليلة قبل أن تغمض عينيها، هو: ماذا سنطبخ غداً؟ وبأي أموال سنشتريها؟
"لقد طهوت اليوم لكنني لا أعرف ما سأطعم عائلتي غداً"، تقول فاطمة أحمد المصري وبجانبها صينية تحتوي دزينة ورق عنب وملفوف، القليل من اللبنة وخبز المرقوق. وجبة لا تحتاج إلى لوازم باهظة الثمن، تمّ تحضيرها في مطبخ ضيّق للغاية في إحدى الغرفتين التي تتألف منها خيمة العائلة. مسكن من ضمن المساكن الـ ٢٠٨ التي تشكّل مخيم اللاجئين رقم 4 في عرسال، حيث يعيش حوالي ١٠٠٠ شخص.
يحتوي كلّ منزل على خزّان لتخزين المياه وموقد صغير لا تكون حرارته كافية في فصول الشتاء القاسية التي تحل على المنطقة. في هذا المخيم، تعيش كلّ عائلة بغرف يدفعون مقابلها مئة ألف ليرة لبنانية سنوياً كبدل إيجار، كون أرض المخيم ملكية خاصة. جدران هذه الغرف مصنوعة من الطوب والسقوف مصنوعة من ألواح معدنية مموّجة مغطاة بداخلية فضية عازلة للبرد، كما لو كانت سفينة فضاء.
بالنسبة إلى فاطمة، أصبحت هذه الغرفة "المنزل" الذي تتقاسمه مع إحدى بناتها الثلاث، ثلاثة من حفدتها، وابنها الوحيد، أحمد، الذي يقدّم الأموال لمنزله بفضل عمله في متجر "دولار". فلا يعتمد فقط على دخله بل على المساعدات الاقتصادية التي يتلقاها كلاجئ أيضاً. وتقول "كان السفر صعباً جداً. أمضينا ليالٍ نمشي في ظلام دامس خائفين من المجهول. أصفينا بلا أرواح".
تقول ريما كرنبي ، نائب رئيس بلدية عرسال :"عندما استقبلنا النازحين السوريين، استقبلناهم كأشخاص هاربين من الحرب، على الرغم من أن هذا التضامن أحدث في ما بعد صورة خاطئة تفاقمت مع غزو مقاتلي داعش للمنطقة".
تقول ريما: "اتهمونا اللبنانيون من باقي المناطق باستقبال الإرهابين، عندما كان كل ما فعلناه هو استقبال اللاجئين ومساعدتهم". مع مرور الوقت وباضطراد أعداد النازحين باستمرار، انهارت الخدمات العامة والبنية التحتية الضعيفة في المدينة وبالأخص خدمات جمع القمامة وتوزيع مياه الشرب وعلاج مياه الصرف الصحي.
"نواجه مشكلة كبيرة في حقولنا، بالأخص في فصل الشتاء عندما تهطل الأمطار بكثرة أو عندما يذوب الجليد. فتطوف المياه الجوفية وتغمر كلّ شيء كما وتتسرب إلى الطريق. فتنتشر روائح كريهة تشتكي منها الناس الذين يعيشون من قربها في البلدة" يقول أبو قاسم، مسؤول مخيم اللاجئين رقم ٤.
الوضع يزداد سوءاً، فلوم اللبنانيين على المشكلة يجعلهم ضحية أساسية فيما يحصل، ومن جهة أخرى إدارة البلدية نفسها تفتقر إلى الموارد اللازمة لتولّي مسؤولية الأحداث.

"ننفق في السنة ٢٥٠ مليون ليرة لبنانية بغية إخراج القمامة من المدينة، ولدينا ٢٤ مسؤولاً فقط عن هذا العمل. فنحاول تمويل هذه المشاريع لإدارة الهدر لكنّ الأمر ليس سهلاً"، توضح ريما. فالوضع يؤثّر تدريجياً على صحة السكان بغضّ النظر عن الأصل أو الجنسية.
تزداد الأمراض في عرسال لدى السوريين واللبنانيين وسببها التلوث البيئي ونقص النظافة كحساسية جلد الأطفال. وتقول الممرضة رادما مصطفى كرنبي: "لقد حدث أيضاً تفشي غير متوقع للحصبة". لكن ما يلفت الإنتباه بشكل ملحوظ هي الأمراض التي تؤثر على الصحة الجنسية والإنجابية.
"يزداد عدد النساء المصابات بسرطان الثدي والرحم، واستضفنا حالات التهابات خاصة بالفتيات و إجهاض تلقائي عند السوريات. لا نملك إحصائيات أو بيانات رسمية، لكن هذا ما يحدث ونصادفه في المشاورة الطبية، ولا يساورني أي شك في أن الأمر يتعلق بتلوث البيئة "، كما تقول أخصائية الصحة.
وفقاً للبيانات الصادرة عن البلدية، تمّ إنفاق حوالي ٢٠٠ مليون ليرة لبنانية لدفع إيجار الأرض المخصّصة لمعالجة مشكلة القمامة، لكنها غير كافية.
يتم تنفيذ عملية جمع النفايات في مخيمات اللاجئين من قبل الشركات التي تستأجرها المنظمات الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية لهم. إنهم ملتزمون بتزويد كل أسرة بـ ٢٧ ليتراً من مياه الشرب وإزالة ١٧ ليتراً من النفايات.
إحدى مهام "أبو قاسم"، كمدير لمخيم اللاجئين، هي الإشراف على إزالة مياه الصرف الصحي، وهي مهَمة يتم تنفيذها مرة واحدة في الأسبوع. عندما يحدث هذا، عملية لا يشرف عليها أبو قاسم فقط، للتأكد بأنّ كلّ شيء يتم بشكل صحيح؛ فعشرات الأطفال يلاحظون كيف يضع العمال الخراطيم لامتصاص النفايات.
كل هؤلاء الأطفال يرتادون المدرسة؟
- نعم، الجميع. المشكلة هي أن مدرسة الأطفال اللاجئين ليست رسمية، يمكن للأطفال السوريين الذهاب إلى هذه المدارس، في المساء عندما يقومون بفتحها، لكن إذا حصلوا على شهادة.. فلن تكون تلك سارية في سوريا؛ فتكون الغاية متعة الدراسة فقط.. يوضح "أبو قاسم".
وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يمثل الأطفال السوريون نصف اللاجئين الذين يعيشون في لبنان. التعليم في حالات النزوح القسري أمر أساسي لأنه يساعد على تعزيز الكرامة وتعزيز تنمية مهاراتهم. بالأخص في عرسال ومنطقة وادي البقاع، فإن الأرقام مثيرة للقلق لأن بيانات المفوضية تشير إلى أن ٥٨ ٪ من الأطفال والمراهقين من سوريا يذهبون إلى المدارس الابتدائية، و٩ ٪ يدرسون في المدارس الثانوية و١٤ ٪ يتلقون التدريب ما قبل المدرسة.
هناك بعض الجهود الفردية غير المرئية، التي، تسعى جاهدة لتخفيف هذه العيوب. ففاطمة، على الرغم من كونها امرأة تبلغ من العمر ٥٣ عاماً، بالكاد تلقت تعليماً أساسياً، فإنها تستمتع عندما يترك جيرانها أطفالهم تحت رعايتها، وهي تعلمهم حروفهم الأولى أو كيفية الرسم.
"كنت الإبنة الكبرى لدى عائلتي. أجبرتني أمي على ترك دراستي لرعاية أخواتي. برأيي، التعليم مهم للغاية ولهذا السبب أساعد الصغار على تعلّم الكتابة. عندما أفعل ذلك، أنسى حالتي و أشعر بإنسانيتي وبقدرتي على مساعدة شعبي"، تقول فاطمة.

تطلع نحو المستقبل
عندما ضربت عاصفة نورما لبنان في يناير 2019 بأمطارها الغزيرة، تساقطت الثلوج غزيرة وأنخفضت درجات الحرارة إلى حدٍّ أقصى. أظهرت وسائل الإعلام صوراً للأضرار التي لحقت بالمدينة، وبخاصةً تلك التي أثّرت على آلاف اللاجئين هناك؛ فلقد غمرت المياه مخيماتهم وغطّتها الثلوج. كانت هذه عقبة واحدة وجب على المشرّدين والسكان المحليين مواجهته حتى التمكّن من إيجاد حلول ملموسة للعديد من الصعوبات التي تؤثّرعليهم.
لا تزال الألغام المضادة للأفراد تشكّل خطراً محتملاً على سكان عرسال. تؤكّد القوات المسلحة، التي تتحمّل مسؤولية إزالة الألغام، أنها تبذل كل الجهود :منها الافتتاحية الأخيرة للمركز الإقليمي لمكافحة الألغام في منطقة رأس بعلبك، والذي تُجرى منه الدراسات بمساعدة مؤسسات متخصصة، مثل المجموعة الاستشارية البريطانية للألغام (MAG) ، لتحديد المناطق الخطرة.. ومن ثمة تنظيف المنطقة .
"فور إعلان الجيش اللبناني انتصاره على الجماعات الإرهابية في عمليات الجرج في مدينة عرسال، بدأ الفريق الهندسي عملية تنظيف الطرق والألغام والأجهزة المتفجرة اليدوية الصنع والذخيرة دون تفجيرها" يقول المتحدثون باسم الجيش اللبناني من خلال رسالة بريد إلكتروني، ويضيفون أيضاً إنهم ينظّمون حملات تثقيفية حول مخاطر الألغام للسكان، بدعم من منظمات مثل "هانديكاب إنترناشونال".
وقد كان للخطة التي وضعتها الحكومة لرعاية الضحايا في جنوب لبنان الذي كانت أرضه مليئة بالألغام بفعل العدوان الصهيوني المتكرر نتائجٌ مشجعة، حيث تمّ إعادة تأهيل الناجين وتركيب الأطراف الاصطناعية للكثيرين. أما في ما يخصّ عرسال، فلم تكن درجات الاهتمام بنفس القوة، على الرغم من الوعود الكثيرة ووضع استراتيجيتين في ذات الوقت: واحدة تهدف إلى عامة الناس لرفع مستوى الوعي حول مسألة الوقاية من حوادث الألغام، وأخرى على أساس ورش العمل التي تشجّع الناجين على صياغة مستقبل من خلال مشاريع لخلق الدخل، بدعم من المنظمات الدولية. إذا تم تنفيذ هذه المبادرات، والتقيّد الصارم بالمعايير الداخلية اللبنانية، ربما لن تتكرّر حالات الإهمال، كما في حالة فطوم.
هيكتور غيرا، مدير الحملة الدولية لمنع الألغام الأرضية (ICBL) التي يركز عملها على تعزيز السياسات الدولية للتعامل مع المعاناة الناجمة عن الألغام المضادة للأفراد في جميع أنحاء العالم، يقول ان "وجود قوانين ومؤسسات لمساعدة الناجين من الألغام أمر مهم ولكنه غير كافٍ، لأن ما سيسمح حقّاً للبنان بمعالجة هذه القضايا بشكل كامل هو أن يصبح طرفاً في اتفاقية أوتاوا - معاهدة تحظّر استخدام وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد". ويضيف "صكّ دولي ملزم قانوناً، يسهّل أيضاً التعاون الدولي، الموجود بالفعل في لبنان، ولكي يسنح له فرصة الدخول في هذا الصكّ.. وبالتالي سوف تتضاعف فرص التعاون". تعاون من شأنه أن يجلب تمويلاً لخدمة ضحايا الألغام المباشرة، ومهم أيضاً لدعم العاملين في الزراعة وغيرها من القطاعات الاقتصادية مثل العمل في المحاجر والتجارة، الذين تأثر دخلهم بوجود المتفجرات.
يقول عبد العزيز فليطي أن لاستعادة أراضيه ومحاصيله، سيحتاج إلى استثمار يبلغ حوالي ٤٠٠٠ دولار أميركي سنوياً على مدار السنوات الخمس المقبلة. وهو حال الآلاف من الناس الذين يعيشون في الريف والذين يحتاجون إلى مساعدة مماثلة، مشيراً إلى أنّ "عرسال تلقّت تمويلًا قدره ٧ ملايين دولار من الحكومة اللبنانية لدعم سكان المدينة عبر مساعدات للمزارعين، وعمال المحاجر ، والتجار وأيضاً لخلق وظائف جديدة".

حلم فاطمة أحمد المصري هو امتلاك ماكينة خياطة، ليس فقط لكسب لقمة العيش عبر الخياطة لدى العائلات الأخرى، ولكن أيضاً لتعليم هذه المهنة. "إذا كان لديّ ماكينة خياطة، فسيمكنني تعليم الخياطة للنساء الأخريات في هذا المجال. هكذا يتعلمن ويكسبن المال. إنه بمثابة حلم لي" تقول فاطمة، التي تحقق رغبتها عبر أساس مهم في مجال المساعدات الإنسانية، وتضيف على كلامها : "يجب أن نستمع إلى النازحين لنعرف ما يحتاجون إليه. وبهذه الطريقة فقط سيتمكنون من المبادرة وتطورها".
وتسلط باميلا أوروتيا (باحثة في مدرسة ثقافة السلام بجامعة برشلونة المستقلة وخبيرة في قضايا المرأة والصراعات والشرق الأوسط) الضوء على أهمية دعم أفكار اللاجئات، قائلة "يجب تعزيز قدرات وموارد النساء، بالإضافة إلى قدرتهن على القيادة كونها مقياس لجلب حجم عمل أقوى، فقدرة المرأة في المواقف القصوى مذهلة ويجب أن نعمل على تطويرها.


بدأت قوافل أسر اللاجئين في مغادرة لبنان في يونيو من العام الماضي ويقدّر أن حوالي ١٢٠٠ سوري وسورية كانوا سيعودون إلى بلادهم. وكانت ريما كرنبي حاضرة في هذه الرحلات، وكانت مهتمة بمعرفة ما إذا كان الوضع في البلدات السورية التي عاد إليها معظم هؤلاء الأشخاص، سليماً وآمناً. أردت أن أرى ما إذا كانت سوريا حقاً تحت الأنقاض وما إذا كان الناس يُعاملون معاملة سيئة عند عودتهم، كما يقول البعض. حسب ما رأيته في سوريا في تلك الرحلات هو أن هناك أمناً، ولا أحد يهدّدهم". وتضيف "أعتقد أن هذه هي لحظة العودة"، رغم أنها تعرف أن هذا لن يكون بهذه البساطة لأن جزءاً كبيراً من السكان السوريين في عرسال لا يريدون العودة.
مأساة عرسال سببها هذا النسيان والإهمال الدائم. وهو نسيان تفاقم مع وصول اللاجئين ووجود "داعش". نسيان لا يبدو أنه يفهم تضامناً أو إرادة شعب يريد فقط أن يعيش في سلام.
(انتهى)