والجدير بالذكر، أن الكثير من أطراف السلطة السياسيّة تبرأت من تفعيل هذه الإجراءات، وأظهرت وطنيّتها تجاه اللاجئين الفلسطينيّين والقضية الفلسطينية وكأن ليست سياستها الشاملة هي التي أنتجت هذا القرار.
ما لم يفعله اللبنانيون عندما أقرّت الحكومة اللبنانية الموازنة، فعله الفلسطينيّون عندما مسّت السلطة اللبنانية بلقمة عيشهم، وربط معظمهم هذا الإجراء بصفقة القرن. أليس في هذا تجلّي للصراع الطبقي؟ وأليست صفقة القرن جزءاً لا يتجزّأ ممّا تصنعه الامبريالية؟ وأليس رفضه ربطاً برفض ما تنتجه الامبريالية يتّخذ شكلاً وطنيّاً ويقتضي أن تتوحّد من أجله الطبقة العاملة اللبنانية والفلسطينية؟ من هذا المنطلق، تفاءل كثيرون.
لكنّ من يعمد إلى مدّ نظره، يمكنه أن يرى أنّ هذه التحركات أخذت طابعاً بعيداً عن الصراع الطبقي، قبل أن تولد، لأنّ ذلك ما أُسّس له من قبل السلطة اللبنانية والوسائل الإعلامية لأطرافها، إضافة إلى الليبرالية والمنظمات غير الحكومية ((NGO بخطابها الذي يسعى لمحو كل ما له طابع طبقي عبر خلق مسمّيات أخرى له، بهدف شرذمة الطبقة العاملة وحرفِها عن الصراع الأساسي. ويمكننا أن نرى خطاب العنصرية الذي تتداوله الكثير من الأوساط، متجاهلةً الواقع الطبقي لما يحصل. يشيرون إلى إجراءات السلطة بـ"العنصرية"، وإلى التحركات الفلسطينية بأنها تحرّكات "مناهِضة للعنصرية". وللأسف، حتى من انتفض في الشارع من أجل لقمة العيش، استسهل هذا النضال "ضدّ العنصرية"، والذي له مدلوله الطبقي أيضاً، كتحديده لموقف طبقي معيّن لتلك الطبقة التي تحملها. هكذا ينزلق الكثيرون في المسمّيات، أي في اللغة المفهومية لنضالهم، وينعدم النضال الطبقي، ويصبح "النضال" تحديداً طبقيّاً ونتاجاً لأيديولوجية البرجوازية. وهذا ليس بالخطاب الوحيد الذي يتمّ تداوله، فهو واحدٌ من بين الكثير من الشعارات المتداولة، والتي تصبّ في مصلحة من يروّج لها، كما أشرنا سابقاً، وقد استقوفني من بينها خطاب "خطاب الكراهية". أليسَ "خطاب الكراهية" خطاباً بحدّ ذاته؟!
وفي السياق نفسه، كان يتم التداول قبل هذه الإجراءات بتوطين الفلسطينيّين في لبنان، وهو ما لا يقبل به الطرف اللبناني طبعاً، وليس من منطلق وطنيّ، بل الدافع الأكبر هو لإخلاله بما يُسمّى التوازن الطائفي، في حين أنّه تم سابقاً توطين لاجئين فلسطينيّين من الطائفة المسيحيّة. وإذا عدنا إلى فترة سابقة، ورغم أنّه كان يتمّ الحديث عن تمسّك اللاجئين الفلسطينيّين بحقّ العودة، إلّا أنه يمكنك ملاحظة ما يتداولونه حول نيّتهم الهجرة من غير تداولهم لحقّ العودة (وهي نتيجة للضائقة المعيشية التي يعيشونها بطبيعة الحال). ولربّما تأتي هذه الإجراءات المجحفة بحقّهم بهدف ترحيلهم عن لبنان، وهو ما يزيد من "أمن" الكيان الصهيوني المحتل الذي ما زال يهدّده الوجود الفلسطيني في لبنان، في محاولة لتصفية هذه القضية، مثلما يهدّد أمن اليمين اللبناني، ومن بينه حزب الكتائب اللبنانية الذي أصدر بياناً في هذا الإطار. وإذا كان المخطّط يتمثّل في تهجير الفلسطينيّين، يكون من وسائل نجاحه خلق فتنة لبنانية فلسطينيّة، ولن يكون خطاب النضال "ضدّ العنصرية" إلّا خادماً له.
إنّ تلك اللغة المفهومية التي أشرت إليها، إنّما هي التي تميّز النضال الطبقي الفعلي، والاختلاف بين كلّ ما هو ثوري ورجعي. هي التي تميّز لأنّها تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من النضال الذي يجعل النقيض الطبقي الثوري في حقل الصراع الطبقي ليشكّل استقلاله السياسي. وإذا أردنا التمعّن أكثر، لرأينا أن لبنان، الذي تداولت الكثير من الوسائل الإعلامية "عدم مشاركته في ورشة البحرين الاقتصادية"، نجح في إظهار نفسه أنه معادٍ لصفقة القرن وبالتالي للامبريالية (في موضعٍ ما)، مثلما تسابقت البرجوازية في كثير من الأقطار على أن تظهر "وطنية"، حيث "تبدّلت" مواقف الكثير من المهادنين، و"بانت" رافضة، بينما أعلنت أقطار عربية أخرى مشاركتها في الورشة الهادفة إلى "عرض المنافع الاقتصادية التي يمكن أن يجلبها اتفاق سلام". في حين أنّ تبعيّة معظم الأقطار العربية للامبريالية تفرض عدم "وطنيّتها"، وما نراه في ممارساتها السياسية ليس سوى انعكاساً لبنية علاقات الانتاج الكولونيالي، فعلاقات الإنتاج هذه نفسها هي التي جعلت منها طبقةً مسيطرة.
على ضوء ما تقدّم، علينا ألّا ننزلق ونميت فكرنا في ممارساتنا، بل علينا تحريره وجعله خلّاقاً منسجماً مع الواقع وقادراً على استيعاب الواقع التاريخي لنضع حجر الزاوية لنضالنا في المكان الصحيح، إذا شئنا ألّا نتأخّرعن موكب الحياة.
لنمضِ إلى النضال السياسي المباشر
عندما اتّخذت السلطة اللبنانيّة الإجراءات الأخيرة الجائرة بحقّ الفلسطينيين، تحرّك الكثير من الفلسطينيين وتبعهم اللبنانيون، مندّدين بهذه الإجراءات ومطالبين بحقّ العمل للفلسطينيين. وهناك من صفّقوا للسلطة وأيّدوا هذه الإجراءات التي اعتبروها محقة، وهم، بطبيعة الحال، جزءٌ من اللبنانيّين الذين انطلقوا من أفضليّتهم، كلبنانيّين، في حقّ العمل، غافلين عن أنّ هذه السلطة نفسها هي من تحرمهم هذا الحقّ، وأنّها تبحث عن حلول ملتوية بعدما أمعنت في إفقار الشعب ونهب البلد وثرواته. وفي هذه الحلول، تمييعٌ لأساس الصراع، كتلك التي لجأت إليها أطراف السلطة نفسها عندما تراشقت تهم الفساد والنهب في ما بينها.
النداء 2024. حقوق المنادى فقط محفوظة.