هذه الأدوات التي استخدمتها قوى المنظومة الطائفية في لبنان في سباقها مع قوى الانتفاضة متشابهة إلى حدٍ بعيد مع أدوات قوى المنظومة الطائفية في العراق في تعاملها مع انتفاضة الأول من تشرين العراقية، مع اختلافٍ ملحوظٍ في مستوى القمع والعنف. لكن تقدّم الثورة المضادة لا يعني انتصارها، فإن قوى المنظومة لا زالت تتمنّع عن تقديم أي تنازلات، أو المبادرة بتطبيق أي إصلاحات سياسية وإدارية في بنية نظامها، بالرغم من تفاقم الوضع الاقتصادي، وانفلات سعر صرف الدولار، وخروج الأمور عن سيطرتها، وذلك بسبب مثابرتها في انتظار وصول الدعم من الخارج، من أي جهةٍ أتى، ومراهنتها على إمكانية إنقاذ نظامها المتهالك من براثن الانهيار.
لا شكّ بأن قراءة الوضع الدولي والإقليمي أمرٌ ضروري لفهم سياق التحوّلات الكيانية والدستورية فيما يسمى بمنطقة "الشرق الأوسط"، فلا سبيل لتقدّم مسار التغيير السياسي في لبنان من خارج السيرورة الثورية في هذه المنطقة، وفي العالم. وبطبيعة الحال، فإن إخماد الميليشيات الطائفية والدولة البوليسية العراقية، لانتفاضة تشرين في العراق، بقوّة العنف المسلّح والاغتيالات، وبتدابير قمع الحريات وحظر الانترنت وشبكات التواصل، ومن خلال نشر الشائعات والتخوين والشيطنة، لا يمكن فصله عن إخماد الانتفاضة في لبنان. تساؤلات عديدة تبرز حول أوجه التماثل بين العراق ولبنان، حتى أن السياق السياسي يبدو متكاملًا: فالأنظمة السياسية متشابهة في بنيتها الطائفية وفي مستويات الفساد في الدولة (تصنيف لبنان والعراق على "مؤشر مدركات الفساد" متقارب جداً)، المطالب الاجتماعية تبدو متطابقةً، والتدخلات الخارجية تتصدّرها الأطراف نفسها، كماشة التدخل الأميركي والإيراني بالدرجة الأولى، ثم التدخل السعودي- الخليجي بالدرجة الثانية.
لقد كان للنموذج السياسي اللبناني القدرة على "لبننة" محيطه بشكل أو بآخر، فقد دخل نموذج المحاصصة الطائفية ضمن مشاريع التقسيم والهيمنة الدولية والإقليمية. فبين التقسيم والتقاسم، وبين الصراع والتوافق، هناك ما يخدم الأهداف القومية العليا للمشروعين الإيراني والأميركي في البلد الذي يملك خامس أكبر احتياطٍ نفطي في العالم. وقد بدأت "اللبننة" السياسية بالفعل تدخل حيّز التطبيق العملي بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وقد كانت الجمهورية الإسلامية في إيران أول المستفيدين فعليًا من إسقاط حكم صدام حسين، فأتى فرض نموذج المحاصصة الطائفي كثمرةٍ أولى للصراع الأميركي- الإيراني واستخدام العراق ساحةً لأجندتين تتقاطعان حول ضرورة التقسيم الطائفي وتريان فيه فرصةً لتثبيت الهيمنة وتقاسم النفوذ. وما الإتيان بمصطفى الكاظمي في أيار 2020 كرئيسٍ توافقي للوزراء في العراق سوى آخر نتائج هذا التقاسم الهيمنيّ بعد تكريس نموذج المحاصصة الطائفي، مع إصرار الكتل الشيعية المنضوية تحت "ائتلاف فتح" والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالجمهورية الإسلامية في إيران على ترشيحه وانتخابه، وذلك قبل أن يتبنّى الكاظمي خطاب "سيادة الدولة" ويعلن الحرب على الميليشيات.
لقد كان إعلان جورج بوش الإبن "الحرب على الإرهاب" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، مدخلاً لتفاقم النفوذ الإيراني في المنطقة، من بوابة العراق، وللمفارقة، فقد كان إعلان "الحرب على الإرهاب" بقيادة الاتحاد الروسي، مدخلاً لتراجع النفوذ الإيراني في المنطقة ككلّ، وذلك من بوابة سوريا. فإذا كان الطابع الأميركي - الإيراني يغلب على صراع النفوذ في العراق (ولبنان)، فإن الصراع يتّخذ أشكالاً وأبعاداً اقتصادية واستراتيجية مختلفة في سوريا، فالتحدّي في شمالها روسي- تركيّ، وفي جنوبها روسي- إيراني، وفي شرقها روسي- أميركي.
إنّ مشروع الامبريالية الأميركية منذ غزو العراق هو تأسيس أنظمةٍ سياسية جديدة تحت راية "الحرية والديمقراطية"، وعلى هذه الأنظمة "الحرّة" أن تمتاز بالطاعة الكاملة للسياسات الأميركية وتوجّهاتها. في المقابل، فإن مشروع "قوى الشرق" (وهو ليس مشروعاُ واحداً بل مجموعة مشاريع متقاربة ومتباعدة في آن) أثبت تقاطعه مع المشروع الأميركي في عدة مسائل جوهرية: اتّباع نهج التقسيم الطائفي واستغلال الديناميات الاجتماعية في المناطق القبَلية، ودعم عشرات الميليشيات الطائفية على حساب دولة المؤسسات والقانون، وتأسيس أنظمة محاصصة طائفية فاسدة، وتدعيم مواقع الطبقات المسيطرة والعائلات المالِكة. لذا، فإن نظرة تلك القوى "المعادية للهيمنة الأميركية" لهذه المنطقة بالذات، هي نظرة الأميركي نفسه لكن بعيونٍ "شرقية"، من موقع هيمنة هو نفسه مع اختلاف درجات الهيمنة نظراً للاختلاف في موازين القوى العسكرية والقدرات السياسية، وليس من موقعٍ نقيض. بالتالي، ومن منظور الشعوب المنتفِضة على أنظمتها الديكتاتورية والرجعية الناهبة في "الشرق الأوسط"، وليس من منظور الأنظمة والطبقات المسيطرة، فإن هذه القوى التي تمعن في التقسيم والهيمنة، كما في تفتيت مؤسسات الدولة لمصلحة الميليشيات الطائفية، بالإضافة إلى دور أذرعها في التصدّي لكل حراكٍ سياسي واجتماعي تغييري ومطلبي من خلال العنف والتخوين والترهيب، هي قوى معادية لشعوب المنطقة وتطلّعاتها، ولا يمكن أن تكون حليفةً حقيقيةً لها، حتى ولو كان بعضها يرفع لواء العداء للكيان الصهيوني، فإن التجارب المتتالية قد أثبتت بأن تحقق المصلحة القومية العليا لتلك القوى يتناقض جوهرياً مع تحقق مصلحة الشعوب المنتفِضة على القهر الاجتماعي والقمع البوليسي المتراكم تاريخياً. وهذا ينطبق أيضاً على المشروع الاستعماري التركي الجديد، منذ بدء التوغّل العسكري التركي في شمال سوريا بحثاً عن موقعٍ استراتيجي في العمق السوري، ثم في ليبيا بحثاً عن حقول النفط، وعبر محاولات أردوغان الحثيثة لاستمالة الشارع الإسلامي العربي ربما استعادةً لأحلام سلطنةٍ بائدة، هي في واقع الأمر لا تمثّل اليوم سوى مشروع تقسيمٍ إضافي وإغراق شعوب المنطقة في المزيد من بحور الدماء.
لا يقع لبنان على الهامش كليّاً في هذا الصراع الإقليمي- الدولي الذي يتمظهر من خلال مشروعين "متناقضين" وذلك من منظور الأنظمة التابعة المتناحرة، مع أن نقاط التقاطع بين هذين المشروعين تصبّ تماماً في مصلحة الثورة المضادة من المنظور النقيض للقوى الاجتماعية المتضرّرة. حتى ولو كان مسار التغيير السياسي في لبنان لا يشكل سوى جزءٍ بسيطٍ من السيرورة الثورية العامة في المنطقة، فللبنان أهمية خاصة سواء في عملية دفع عملية التغيير الثوري إلى الأمام وتحويل الصراع السياسي إلى صراع أكثريات شعبية ضد أقليات حاكمة، أو في عملية إحباط التغيير السياسي وتحويل الصراع إلى صراع طوائف وقبائل تستفيد منه الأنظمة وتستثمر فيه. للبنان أيضاً موقعه الاستراتيجي بالنسبة إلى القوى الدولية - الإقليمية والطبقات المسيطرة وأنظمتها في المنطقة، سواء من حيث موقعه في الجغرافيا السياسية الإقليمية، أو في سياق حماية مصالح الكيان الصهيوني، أو كساحةٍ مشرّعة أمام تصفية الحسابات وتبادل الرسائل الإقليمية والدولية - بسبب الطبيعة التبعية التي تحكم المنظومة السياسية، أو كنموذج حكمٍ سياسي محاصصاتي طائفي يمثّل رافعةً لمشاريع تلك القوى والطبقات المسيطرة، أو كباحةٍ خلفيةٍ وملعبٍ أمنيّ وخزّان دولارات للنظام السوري بحكم الموقع الجغرافي والواقع المالي قبل الانهيار.
إنّ التضييق الأميركي على المصالح الإيرانية في العراق ولبنان، والتضييق الروسي على المصالح الإيرانية في سوريا، يضعنا أمام معادلةٍ جديدة، وهي معادلة غياب البدائل الاصطناعية والحلول المؤقتة من الخارج، سواء من الشرق أو من الغرب. لم يعد أمام اللبنانيين سوى سلوك الدرب الصعب، لكن الحقيقي، أي خيار بناء مشروعهم الوطني التحرّري المقاوِم، الذي يتقاطع بالعمق مع مصلحة الشعبين العراقي والسوري، بكلِّ قومياتهم وإثنياتهم ومذاهبهم، ضد قوى دولية وإقليمية تعمل على إطالة أمد حروبنا الداخلية ونكباتنا، وأنظمة مشتركة متشابهة من حيث الفساد والإجرام. أمام لبنان اليوم، في ظلّ الانهيار الاقتصادي المتسارع، فرصة تاريخية من أجل تحقيق الانتقال السياسي، باتجاه العلمنة والعدالة الاجتماعية، على أنقاض الحكم الطائفي البائس والمنظومة الأوليغارشية، عسى أن تستمرّ "اللبننة" وتكون للمرة الأولى في مصلحة شعوب المنطقة، وليس في مصلحة الأنظمة الفاسدة والمجرمة؛ ولم لا، وفي حالة تأسيس أنظمةٍ جديدة، فليس هناك ما يمنع قيام مشروع اقتصادي مشترك، وسوقٍ مشتركة، وخلق اتحادٍ نقدي وعملةٍ موحّدة، على غرار اليورو في الاتحاد الأوروبي. لكن في الوقت عينه، فإن غياب مقوّمات الصمود الاقتصادي، وتزايد الاهتراء السياسي الذي يعاني منه لبنان في ما تستمرّ قوى التغيير بالتخبّط، يفتح المجال أمام خيارات دموية لا نريدها لكنها تستحيل واقعاً ملموساً في إطار تصعيد التدخلات الدولية والإقليمية عبر الوكلاء المحليين.