الرأسمالية معاديةلأشكال التضامن التي تشكل خطراً عليها، وبينما تدمر الرأسمالية هذه الأشكال الخطيرة من التضامن الطبقي والديمقراطي عبر شق حركات التضامن إلى مكونات إثنية وجندرية وحقوقية، فإنها في دول الجنوب التاريخي، وبعد أن استنفذت سريعاً إمكاناتها التنموية التي قامت على أساس قطاع دولتي كبير وتدخل الدولة بأدوات التخطيط والخدمات الاجتماعية التي وسمت تلك الفترة، وبوصول قطاعات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة فيها إلى السلطة والثروة وتبلورها في جهاز الدولة الذي رسخ قوته بتبادل المنفعة مع جماهير واسعة، فإنها نفضت الغبار الثوري عن كاهلها تحت ضغط استعماري تراوح بين حصار اقتصادي وعدوان عسكري، وأظهرت البرجوازية الصغيرة بعد أن كبرت وتبقرطت وانتفعت ميولاً للتحالف مع طيف عريض من طبقات المجتمع القديم التي خدمت في بلاط الاستعمار، أو من ورث إرث هذه الطبقات الرجعية، ففي الريف حلت هيمنة أغنياء الفلاحين محل كبار ملاك الأراضي القدامى، وفي المدينة برزت البرجوازية التجارية ومقاولو الباطن وسماسرة السوق السوداء وشكلوا الحامل الاجتماعي لمشروع التفكيك.
ونظراً لاحتقار – وفي أهون الحالات تهميش – القطاعات الجماهيرية الشعبية، سار مشروع التفكيك بسهولة يمكن رصدها في مصر. وقد استهدف التفكيك القاعدة الواسعة التي ارتكزت عليها يوليو 1952 في مرحلتها الثورية، القاعدة التي حازت منافع نسبية كالفلاحين الذين استفادوا من الإصلاح الزراعي، والطبقة العاملة التي تبلورت نسبياً في قطاعات صناعية ومراكز ثقل أرستها التنمية الناصرية.
لتفكيك هذه التركيبة الشعبية كان هجوم اليمين الساداتي على الصناعية المصرية بتصفيتها، وقد وعى السادات الدرس بذكاء، فكل التحركات الاحتجاجية التي كانت تعاديه خرجت من مراكز صناعية وعمالية عتيدة كاحتجاجات عمال الترسانة البحرية ومجمع حلوان للصلب وصناعة النسيج في كفر الدوار والمحلة بالإضافة طبعاً للحركة الطلابية التي كانت تصفيتها أكثر سهولة وإن كانت أكثر عنفاً، أكثر سهولة لأن الجامعة تشهد تغيراً مستمراً في قوامها الطلابي في كل عام دراسي، يخرج طلاب قدامى ويدخل طلاب آخرون، لم يستدع الأمر أكثر من عنف الدولة مع استدخال حرب أهلية صغيرة بانتداب الجماعات الإسلامية مع تغييرات في لوائح الاتحادات الطلابية بالتوازي مع التغيرات المستمرة خارج الجامعة حتى آلت الحركة الطلابية إلى مجرد حركة مطلبية فئوية ودانت السيطرة على الحرم الجامعي للنظام وحلفائه.
إن التضامن في وحدات الإنتاج هو المحصلة الطبيعية لتواجد عدد كبير من الأفراد في نفس بيئة العمل تحت طائلة نفس شروط الإنتاج وعلاقاته، ما يخلق وعياً جمعياً يتدرج من الوعي الفئوي المحض إلى وعي سياسي بمجمل العملية الاجتماعية توفرت شروطه بوجود خطاب اليسار الثوري رغم تخلف خطابه الذي كان ذيلياً بتعويله على برجوازية وطنية متخلفاً عن حركة الجماهير لدرجة أنه بوغت في 1977 بالانتفاضة الشعبية، بوغت تنظيمياً وضاع. فالقطاعات القديمة منه قد اعتادت لفترة طويلة رسم خطها السياسي بناءً على خط عبدالناصر وتحديد مواقفهم من القضايا التي يطرحها هو، وحينما غاب جوبهوا بحقائق وتطورات كانت سرعتها أكبر من قدرتهم النظرية المهلهلة والتنظيمية المنهكة من طول الوقوع تحت مطرقة الناصرية الأمنية والجماهيرية.
عموماً، استهدفت الساداتية تفكيك كل أشكال التضامن الطبقي والسياسي عبر تفكيك الصناعة وتفكيك اليسار عبر تسريع عملية انهياره الذاتي باستغلال تشرذمه وضرب أجنحته بعضها ببعض واحتواء البعض الآخر، لتحل محل هذه الأشكال من التضامن أشكال العمل الخيري وحملات التبرعات للفقراء وغيرها من المسكنات التي تعالج مظاهر الفقر جزئياً لا جذوره الحقيقية.
في نفس الوقت، هاجم النظام في تطوره الساداتي – التطور ليس دائماً إرتقاءً لأعلى – كل المقولات السابقة التي تبناها في مرحلة الثورية البرجوازية الصغيرة، فالإمبريالية والاستعمار صارا يملكان 99% من أوراق اللعبة، وصار الاتحاد السوفييتي عدواً استراتيجياً، والمقاومة الفلسطينية خطراً تجب تصفيته. بينما التصنيع الثقيل الذي كان شعاراً في المرحلة الثورية – ولو ظل شعاراً لم يتحقق – استبدلته الساداتية بقيم الربح السريع الطفيلي والمضاربة والسمسرة. في الريف تم رد الاعتبار وجزء من الأراضي التي صودرت من كبار الملاك، وطُرد المؤاجرون من الأراضي واستحدثت ترسانة من القوانين التي ترسخ لهيمنة الحلف الطبقي الجديد الذي انطلق في مسار التفكيك بلا رادع.
طال التفكيك كل المستويات، القاعدة الإنتاجية، العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، البنية الفوقية للمجتمع، الذي حسمت السلطة الجديدة فيه التردد بين المحافظة والحداثة بانطلاق التيار الإسلامي لاستبدال كل ما استحدثته يوليو من طرائق تفكير مختلفة وإن ظل بعضها يعانق الرجعية سراً تارة وجهراً تارة، حلت أخلاق القرية محل قيم الثورة في إشارة واضحة للاستدارة في الاتجاه المحافظ وتفكيك دزينة من الشعارات وتجريسها.
كان الهجوم على التضامن العربي هو أحد أبرز عناوين التفكيك الساداتية، تفكيكاً لمفهوم الأمن القومي المصري الذي صاغته الناصرية في حركتها الإقليمية لمواجهة الاستعمار، كنقيض لنظريات الانكفاء على الداخل التي وسمت عهود الاضمحلال المصرية. وبينما تعاظم دور مصر والإمكانيات التي أطلقها الظهير الشعبي العربي لتصبح البلاد قوة إقليمية وعامل مستقل في السياسة الإقليمية والدولية، فقد استدارت الساداتية نحو الانكفاء على الذات كجزء من استراتيجية إلحاق مصر بمعسكر ظلت تعاديه وتقاتله لسنوات طويلة، استتبع هذا الانكفاء تصدع الجبهة العربية بالكامل والذي يعود جزء منه لطبيعة الأنظمة القائمة وتناقضاتها العميقة إلا أن الانسحاب المصري المفاجئ قد ترك الشعوب العربية في خضم بحر من الفوضى في مرحلة كانت شديدة الحساسية، وبمقدار ما تفكك التضامن العربي على قاعدة معاداة الاستعمار بمقدار ما كانت مصر تدخل معسكرها الجديد في حالة متزايدة من الضعف والخضوع.
على هذه الخطوط العامة واصلت الطبقة الحاكمة المصرية تعميق تفكيك مصر الذي صار في التحليل الأخير تعميق تبعيتها وتفكيك أمنها القومي وإخضاعها المتزايد في إطار النظام العالمي. وبمقدار ما تعمّق خط التفكيك بمقدار ما انحصرت منافعه في إطار طُغموي طبقي تضيق حدود المستفيدين منه وتتعاظم ثرواتهم كما تتعمق تبعيته فيصيرون أكثر انعزالاً عن الجماهير التي كانت طرفاً أصيلاً في العِقد الاجتماعي الذي صاغته يوليو 1952، فيزداد بوضوح اعتماد السلطة على ساقين، ساق القمع المُفرط الذي اختلفت وظيفته الاجتماعية في عهد التفكيك عن العهد العهد الناصري. ففي زمن عبدالناصر كانت وظيفة القمع تثبيت عبدالناصر وسلطته كمتحدث أوحد باسم الجماهير الشعبية المصرية ارتكازاً على أن النظام يطرح شعارات تمثل إلى حد ما تطلعات الجماهير ومصالحهم، وإن لم تتطابق هذه الشعارات دائماً مع ما تتطلع إليه الجماهير وإن كانت الشعارات في كثير من الأحيان بقيت مجرد شعارات. تزامن القمع من اجل احتكار التمثيل مع مكاسب اجتماعية هامة فأتاح لعبدالناصر سحق كل معارضة أو محاولةلتنظيم الجماهير ومساءلة الشعارات التي طرحها في حماية خطاب شعبوي صارخ وحيز من المناورة اكتسبها عبدالناصر في إطار قيادته للتحرير الوطني. لكن في عهد التفكيك الذي تناقضت وتتناقض فيه باستمرار مصالح الجماهير الشعبية وتطلعاتها مع المحتوى الاجتماعي للسلطة والخيارات الطبقية التي تنتهجها يلعب القمع دور تثبيت السلطة ذاتها لا تثبيت احتكار التمثيل، أي محاولة احتواء التناقض الاجتماعي الواضح والذي يتجذر بمقدار ما يتقدم التفكيك ويفرض ترسيمه الاجتماعي الجديد ويخلق بنيته السياسية اللازمة. الساق الثانية تتمثل في قلب الارتكاز الذي مارسته سلطات التفكيك المتوالية، فبدلاً من الارتكاز الناصري الشكلي على تأييد جماهيري حقيقي لفرض سيطرته على لعبة التناقضات والتوازنات في سياسته الداخلية والدولية، ترتكز سلطة التفكيك على الدعم الذي توفره الإمبريالية الدولية لهذا النوع من الأنظمة، الدعم المالي السخي الذي عمل كأداة لتمويل التغيير الهيكلي وتكييف البنية الاقتصادية المصرية لموقعها الجديد كنازح للثروة الوطنية للخارج، بالإضافة إلى أن هذا الدعم يتحول بمرور الزمن إلى عامل في خلق قيود التبعية والارتهان التي تصبح الجوهر المحرك للمسار الاقتصادي والسياسي للتفكيك.
طال التفكيك جميع القطاعات وعمل عبر كافة المستويات في المجتمع المصري، وكان جوهره واحد برغم اختلاف الشعارات التي طرحتها السلطات المتعاقبة في محاولة لتمرير مسارها التفكيكي. من دولة العلم والإيمان إلى دولة الإسلام هو الحل إلى دولة القومية المصرية يمينية المضمون والشكل، وبرغم عُمق العملية وامتدادها التاريخي، فإن موقعاً واحداً ظل عصياً على التفكيك، برغم اهترائه المستمر.
يتناقض حجم جهاز الدولة المصرية المهول مع ما بقي له من دور اجتماعي، ربما توحي ضخامة هذا الجهاز وتغوله بلا تاريخيته وعبوره للأزمان، غير أنه قد مر بلحظات تحلل وتحولات كيفية في طبيعة الأدوار المنوط به لعبها، بجانب وظيفته الأصلية: القمع.
الدولة هي كائن غير محايد، جهاز طبقي يمثل مصالح تضيق أو تتسع بحسب الظرف التاريخي، وقد مثلت دولة يوليو تحديداً مصالح البرجوازية المتوسطة لكنها سعت لتوسيع قاعدة وجودها عبر توزيع المنافع النسبية من خلال القطاع العام والخدمات المجانية وسياسات الدعم، وقد طال التفكيك سياسة توزيع المنافع، بالتزامن مع التغير الذي طرأ على المصالح التي يمثلها جهاز الدولة، المصالح التي تضيق أكثر فأكثر.
أدى التوسع في الوظائف العامة الذي تزامن مع مرحلة النهوض الاقتصادي واتساع الوظيفة الاجتماعية للدولة إلى تضخيم بيروقراطيتها، امتازت تلك البيروقراطية عموماً بثبات عصي على الفصل التعسفي وتقلبات سوق العمل، وبينما انحلت الأجهزة والمؤسسات الاقتصادية للدولة، ظلت بيروقراطيتها صامدة، تختزن كل ما هو رجعي ومحافظ وتعمل كصمام أمان لسلطة التفكيك التي صارت تتحول أكثر فأكثر لشكل طغموي تضيق حدوده وتتسع الهوة بينه وبين الشرائح الشعبية، بل صارت تلك البيروقراطية أحد أدوات قمع المواطن وإذلاله وبالتالي ازداد تمسكها وتماسكها حول الدولة باعتبار أن الموظف المسحوق أمام رؤسائه لازالت لديه سلطة إذلال المواطن في المصلحة الحكومية. غير أن اشتداد أزمة الرأسمالية عموماً، وتعمق تلك الأزمة في مصر ووصول أزمتها الاقتصادية والاجتماعية لحد أجبرها على المزيد من سياسات التقشف والإصلاحات النقدية التي بترت القيمة العظمى من مداخيل المصريين، ومحاولات السلطة تقليص حجم جهاز الدولة البيروقراطي المدني، تقليص فئاته الدنيا بالطبع، وهو تقليص يستعدي عليها المزيد من الفئات الاجتماعية لكنه يكشف عن الميول التفكيكية لدى الحكم الرأسمالي في مصر، ميول تصل حد تفكيك واحدة من شبكات الأمان الأخيرة المتبقية ومخزن للقيم الاجتماعية المحافظة، مرآة لحجم التفكيك الذي طال الدور الاجتماعي للدولة التي صارت بيروقراطيتها لا لزوم لها إلا بتوفير قاعدة ما تمنح تلك السلطة توازناً نسبياً عبر ما توفره من ثبات وظيفي – كانت توفره إذا بدأت محاولات حثيثة لتقليص حجم الجهاز المدني باختبارات المخدرات و"التطفيش" المتعمد – وتأمين طبي – تتم حالياً دراسته إحالته للقطاع الخاص – هذا الميل لتقليص حجم الجهاز يتوازى مع تعليمات دلوية بضرورة خفض عجز الموازنة عبر تقليص النفقات، ولعل أحد أوجه تقليص نفقات جهاز الدولة هي سياسة التضخم وتخفيض قيمة العملة، فإذا لم يكن متاحاً تسريح أجزاء واسعة من البيروقراطية، ولا هو متاح تخفيض أجور محدودة أصلاً في معظم القطاعات دون إحداث قلاقل اجتماعية واسعة، فإنه بالإمكان تخفيض فاتورة الأجور عبر موجات تضخمية يواجهها ثبات نسبي في الأجور، وانخفاض في القيمة الحقيقية للعملة.
يبقى أن نقول أن مسار التفكيك في مصر وفي دول الجنوب برمتها قد ارتكز على النيوليبرالية كأجندة اجتماعية واقتصادية تفرض نمطها السياسي الحاسم، غير أن هذا المسار محفوف بالمخاطر رغم دقة عملياته وشموليتها، الدقة في استئصال مراكز الفعل الاجتماعي والشمولية في أنها طالت كافة الأصعدة، غير أن تلك العملية مهما مرت بسلاسة على مدى زمني، ومهما جاءت مقاومتها عفوية غير منظمة كنتيجة للعملية نفسها، فإن الوجه الآخر لتلك العملية لن يكون سوى التجميع البطئ لنقاط تنظيمية على مستوى الشارع قد يكون نمطاً مغايراً لكل ما سبق، كما قد يكون المزيد من التشظي والتآكل والتفكيك الذي لن يتوقف على الصعيد القاعدي، لكنه سوف يطال بشكل متزايد الحصن ما قبل الأخير لسلطة التفكيك، بيروقراطية دولتها المهترئة، إن اكتمال هذا الصدع –وهو ممكن بالنظر لعمق الأزمة- قد يطرح إمكانيات إما لانحلال مشروع التفكيك أو لانحلال الاجتماع المصري برمته.
تفكيك مصر!
يمكن استخدام هذا العنوان لوصف مسار التحولات الاجتماعية والسياسية التي أُنزلت بمصر منذ هزيمة 1967 والتي تكاثفت بموت عبدالناصر وصولاً للمرحلة الراهنة. التفكيك الذي هو ضرب شكل معين من تنظيم المجتمع المصري أنتجته تحولات ما بعد يوليو 1952، والذي يمكن اعتبار أنه – عناصر التفكيك – كانت كامنة في شكل هذا التنظيم ذاته وبنيته وجوهره.
النداء 2024. حقوق المنادى فقط محفوظة.