ترابط التناقض الطائفي بالصراع الإقليمي وخطر تفكك الكيان


ليست التناقضات ذات الطابع الطائفي في الحياة السياسية اللبنانية ظاهرة عابرة أو سطحية، بل إنها مظهر لخلل بنيوي ارتبط بإنشاء الكيان اللبناني والنظام السياسي على أساسه. وقد نجم وينجم عن هذا الخلل، تناقضات داخلية وانقسامات عامودية وحروب أهلية، تتداخل وتتفاعل فيها صراعات إقليمية ودولية، تجعل الوضع اللبناني مرتهناً لها ولتسويات لا تتلاءم مع مصلحته، وليست حلولاً. وهذا ما يجعل الوضع اللبناني برمّته معرّضاً لهزات تلامس الكيان ووحدته الداخلية. وإذا ما قام بعض المنظّرين بتبرير النظام الطائفي وتصوير انه صيغة مُبدعة لواقع تعدّد الطوائف والمذاهب، فإن الحياة العملية وممارسات زعامات الطوائف والمذاهب، أظهرت عكس ذلك. فالبنية الطائفية للنظام ومعاييرها، هي العامل الأول لإعاقة وإفساد مناخ التعدد ومنع نجاحه.

فقد أوجدت حالة تناقض وخلافات بين زعامات الطوائف والمذاهب لا تلغيها تسويات وتحاصصات تبقى مؤقتة ولا ثبات لها. كما لا تلغي حذر وخوف كل طائفة على حصتها من مطامع ودور الطائفة الأخرى ربطاً بموازين القوى المتحركة سياسياً وديمغرافياً. ويتيح كل ذلك إمكانية استقواء زعامات طوائف على الدولة واستباحة القوانين داخلياً، وقيام علاقة ترابط بينها وبين مرجعيات خارجية، دينية وسياسية سلطوية، يؤدي التناقض بينها، الى جعل الداخل اللبناني ساحة صراع إقليمي، سياسي وديني ومذهبي، بأدوات داخلية. فيُفقد الدولة الكثير من سيادتها، ويُضعف استقلالية قرارها. أليس هذا ما يشهده اللبناني اليوم في الولاءات المتنافرة للسعودية وإيران؟ أوليس الصراع على النفوذ وتعظيم دور الطائفة والمذهب، هو دافع لزعامات طوائف ومذاهب، للاستقواء بأطراف ودول خارجية والتبعية لها، من فرنسا الى انكلترا ثم أميركا، ومن سوريا الى "إسرائيل" .. الخ..؟
وإذا كان من الطبيعي أن تستدعي مواجهة المخطط الأميركي الصهيوني المعادي لتحرر شعوبنا، التضامن والتعاون بين القوى السياسية التي تلتقي في مواجهة هذا المخطط، إلاّ إن ذلك لا يلغي وجود طابع وطني وخصوصيات في كل بلد لا يمكن تجاهلها. فاستقواء كل طرف بخارج معين، والتمادي في إهمال الشعور الوطني للشعب وقضاياه الاجتماعية والمعيشية، والتباهي بفائض القوة، يستدرج ردّ فعل يضاعف من خطر اللااستقرار وتصدّع الوحدة الداخلية، والوقوع في فخ المخطط الأميركي الصهيوني الأصلي الرامي إلى إقامة "شرق أوسط جديد" على خلفية "الفوضى البناءة" وتفتيت الدول العربية، خصوصاً المحيطة بإسرائيل، وعلى الأخص لبنان الذي من أهم أسباب الحقد الصهيوني عليه، المثال الذي قدمه في نجاح المقاومة الباسلة ضدّ الاحتلال وفرض الانسحابات المذلة على جيشه، بدءاً من بيروت عام 1982، وصولاً الى ٢٥ أيار عام 2000، ثم إفشال أهداف عدوانه عام 2006.
لقد أظهرت التجربة أن بناء لبنان الكيان والدولة على مرتكزات طائفية ومذهبية أبقى اللبنانيين رعايا طوائف ومذاهب، ولم يشكل أساساً توحيدياً صلباً لوطن حصين ودولة سيّدة. كما لم توفّر الامتيازات لطائفة الاطمئنان لجمهورها والاستقرار للبلاد. وكذلك المناصفة، ولا تختلف عنها المثالثة التي تراود البعض. فالانطلاق من الحفاظ على لبنان الوطن والكيان الواحد، وإفشال الهدف الاسرائلي، يتطلب الاستفادة من دروس التجربة، والتخلي عن أوهام الامتيازات أو هيمنة أية طائفة أو مذهب. وانّ إخراج لبنان من دائرة الاهتزازات والتبعية ومن العجز حتى عن تشكيل حكومة وانتظام عمل السلطة، يستدعي بالضرورة إقامة دولة المواطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، القادرة على حماية لبنان من اعتداءات ومطامع العدو الصهيوني والوقوف بوجه الضغوط الخارجية. فالنظام الطائفي أبقى الوضع اللبناني هشاً. ولم يبنِ وطناً ولا دولة متماسكة، وأوصل هذا الوضع برمّته الى الانهيار والكوارث. وأصبح التمسك به، أو الجموح الى هيمنة طائفة أو مذهب، استناداً الى فائض القوة، تمادياً في إغفال الشعور الوطني للشعب وقضاياه الاجتماعية، وخطراً قد يؤدي الى تفكك الكيان. وهذا أفضل خدمة مجانية للعدو الصهيوني.