المسار التاريخي للصراع الاجتماعي وموازنة الإفقار 2024

ليس جديداً أن تكون السياسة الاجتماعية للطبقة السلطوية مناقضة تاريخيا لمصالح الطبقات الشعبية والفقيرة. لكن الجديد هو بمفاقمة الضرائب والرسوم على الطبقات المذكورة في موازنة عام 2024، وتجاهل الضائقة المعيشية الشديدة والتدهور الاجتماعي، وتجاهل أمن الناس الصحي والتعليمي والغذائي.. الخ، ومقتضيات صمود أهلنا في القرى الحدودية والنازحين منها.

فالمسار التاريخي للصراع في القرنين المنصرمين، يحمل في جوهره طابعاً إجتماعيا مع بعد وطني تجلّى في العاميات والثورات الفلاحية والشعبية التي طغت في القرن 19، رداً على الظلم الاجتماعي الإقطاعي المستند الى دعم السلطنة العثمانية. ولم يكن القمع والعنف الوسيلة الوحيدة لضرب هذه الثورات، بل لجأت قوى الإقطاع والسلطة العثمانية الى تقسيم صفوف الفلاحين وضرب وحدتهم من خلال تقسيم الإمارة على أساس طائفي بعد عامية انطلياس الثانية عام 1840، بإنشاء قائمقامية برئاسة مسيحي شمال خط الشام، وقائمقام درزي جنوبه.
وعندما فشل هذا التدبير في إطفاء شعلة النضال الشعبي الفلاحي ضد استمرار الظلم وزيادة الضرائب، أقدم الإقطاعيون والسلطة العثمانية، ومعهم الدول الأوروبية المتغلغلة في بلدنا والطامعة بتعزيز نفوذها وسيطرتها، على افتعال الفتنة الطائفية الشهيرة عام 1860، لضرب انتصار الثورة الفلاحية بقيادة طانيوس شاهين عام 1859. فترافقت هذه الفتنة مع قتل وحرق وتهجير قرى وبلدات عديدة.
وتوصل المتواطؤن الى اتفاق فيما بينهم تجلّى في بروتوكولات 1863-1864، التي تفرز اللبنانيين الى طوائف، ترعى كل دولة أوروبية طائفة مسيحية معينة، وترعى بريطانيا الطائفة الدرزية. كما أدخلوا التمثيل الطائفي في مجلس المتصرفية. علماً أن الصراع لم يكن أساساً بين طوائف بل بين طبقات إجتماعية هي الفلاحين والإقطاعيين. وقد انعكس التمثيل الطائفي في المواقع السلطوية تمازجاً بين الطابع السياسي والإداري العام للموقع، وبين التمثيل لطائفة، علماً أن الطابع الطبقي الإجتماعي للصراع، يستدعي تمثيل المكونات الإجتماعية للصراع وللبلاد وليس العكس. خصوصاً وان المنتمين الى نفس الطبقة الاجتماعية، هم من عدة طوائف، لكن مصلحتهم الاجتماعية المشتركة، توحدهم.
في حين أن الطائفة لا تتميز بوحدتها إلا في طقوسها الإيمانية والدينية، وليس بوحدة بنيتها الاجتماعية . فالأقلية المستغِلّة هي من طوائف متعددة، وكذلك الأكثرية الشعبية التي تجمعها مطالبها وحاجاتها وقضايا تحررها من الاستغلال. وليس خافياً أن الأديان تتلاقى في القيم الإنسانية والإجتماعية والأخلاقية، وليس العكس، لكن قوى السيطرة الخارجية وأعوانهم في الداخل، يفتعلون تأجيج الإنقسامات لبسط سيطرتهم وتحقيق مخططاتهم لبنانياً وإقليمياً على حساب لبنان الدولة والشعب والوطن، والقيم الإنسانية.
لقد حمل انعكاس هذه التركيبة الطبقية الطائفية المختلّة في مرحلة لبنان الكبير، وفي مرحلة الاستقلال، خللاً بنيوياً يضفي على القضية الإجتماعية والوطنية طابعاً طائفياً مهتزاً. وقد كانت ثورة 1958 مثالاً على ذلك لكن الطبقة السلطوية، رغم وعود رئيس أول حكومة إستقلالية، رياض الصلح، تمسكت بالنظام الطائفي لأنه يغطي مصالحها بخاصة ويحمي فسادها، ولو على حساب بناء دولة ديمقراطية حديثة متماسكة ووطن حصين. فلم يقدموا على تحقيق الإصلاح الضروري، حتى وفقا لما كان يرمي اليه الرئيس فؤاد شهاب، الذي استقدم بعثة ايرفد للقيام بدراسة متأنية للواقع اللبناني، والتي رأت أن في لبنان مشكلة أساسية، تحتاج الى معالجة، هي التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وبين المناطق. علماً أن الهوة المذكورة قد اتسعت، والأزمات الاجتماعية والوطنية قد تفاقمت مع أزمة بنك انترا وانعكاساتها منذ أواسط الستينيات، التي تسبّبت بتحركات شعبية تطالب بالإصلاح إقتصادياً وإجتماعياً، وباعتماد السلطة سياسة وطنية دفاعية تحمي لبنان من اعتداءات العدو الإسرائيلي على المطار وغيره.
ومع أن هذه الأزمات المحتدمة، بوجهيها الاجتماعي والوطني قد شكلت الممهدات الداخلية لانفجار الحرب الأهلية ومآسيها، فإن الطبقة السلطوية بالتواطؤ مع من أُوكلت إليهم إعادة بناء الدولة ، أعادوا إقامتها على الأسس الطائفية والطبقية نفسها، التي تكمن التناقضات في بنيتها وسلطتها. وإن استمرار سياستهم الاجتماعية وتدخل السلطة الفاضح لمصادرة استقلالية الحركة النقابية، أضعفت دور الحركة الشعبية والعمالية، لكنها لم تلغ أسباب الأزمات، بل أدّى تفاقمها الى انفجار انتفاضة 17 تشرين التي شكلت محطة نوعية مهمة تتلخص بالتحرك الشعبي الكبير خارج أسر الطوائف وزعاماتها، وان جرى إضعافها بالقمع الرسمي والميليشياوي وبدور القوى الطائفية في التأثير على قسم من جمهورها. فما بقيت أسبابب حالة الإفقار والإنهيار قائمة، فإن الإستياء الشعبي وصولا الى الانتفاض والاستفادة من التجربة الأولى يبقى مستمراً. وليست الاعتصامات والإضرابات التي لم تتوقف، سوى تأكيد على أن شعلة النضال من أجل التغيير لم تنطفأ. فالإصلاح والتغيير الحقيقي هو ضرورة ملحة إجتماعية ووطنياً، وينبغي أن تتبلور في بناء دولة العدالة الاجتماعية والمواطنية والديمقراطية والقادرة على حماية الوطن. وتوفير شروط العيش بكرامة.