حيّدوا عن درب الخيانة

في الوقت الذي يتحضّر فيه الكيان الصهيوني الغاصب لتوسيع نطاق احتلاله وسيطرته ليشمل مناطق غور الأردن والضفة الغربية، والتي يريد أن يضعها تحت سيطرته الكاملة، بعد أن كان يحكم عليها سيطرةً سياسية واقتصادية وأمنية غير مباشرة، يتنطّح البعض في لبنان، وكان في مقدّمتهم البطريرك بشارة الراعي، إلى إطلاق نداءٍ لحياد لبنان واللبنانيين عن صراعات المنطقة والعالم وبدأ على إثره عدد من القوى السياسية بتبنّي النداء نفسه، ليشكّل موقف الحياد هذا انحيازاً لا غبار عليه لمصلحة المعتدين المحتلّين، حيث طالما كان الحياد في الصراع بين الغاصب والمظلوم، وبين المستأثر والمنتهَك، انحيازاً جباناً لمصلحة الغاصبين المستأثرين.


هو موقفٌ يتلطّى بمصلحة لبنان المزعومة شكلاً، لكنّه يقدّم في المضمون خدمات لأعداء لبنان وفلسطين وكافة شعوب العالم، على وقع إشارات من وراء الأطلسي لحشد كل القوى والصفوف في خدمة معركة التوسع والسيطرة، وتنفيذاً لصفقة القرن التي جرى ويجري تنفيذ فصولٍ واسعةٍ منها اليوم. تعليمات واشنطن لصفّ سياسيّيها وإعلامييها وأمنيّيها ورجال دينها في لبنان ليس بالضرورة أن تتضمّن توجيهاً بخوض معارك واضحةٍ ومفضوحةٍ وخاسرةٍ، بل تتضمّن أيضاً توزيعاً للأدوار بين الهجوم المكشوف والحياد الكاذب، لكنّ كل الأدوار المرسومة تصبّ في بحر الارتهان والانحياز واضح. دعوة الحياد المزعوم هي هي دعوةٌ للانحياز لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية.
أيغفل الداعون إلى الحياد عن مفاعيل نسف حق العودة للاجئين الفلسطينيين وضمّ القدس والضفّة الغربية والجولان السوري ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا إلى "السيادة" الصهيونية المزعومة على أمن واستقرار ووحدة لبنان وفلسطين وسوريا والأردن وسائر دول المنطقة، أم أنّ خداب الحياد هذا هو جزءٌ من مستلزمات إنجاح ذاك المشروع؟
إذا كان همّهم مصلحة لبنان وحقوق اللبنانيين، فلماذا لا يرفعون الصوت للمطالبة بالأسير البطل جورج عبدالله المحتجز ظلماً في سجون فرنسا؟ لأنّهم لا يستطيعون ولا يريدون أن يحيدوا عن التصاقهم الكامل بالأم الحنون وبالولايات المتّحدة. إذا كانوا لا ينامون الليل من أجل الشعب اللبناني، فلماذا لا يطالبون باستعادة رفات الشهداء المحتجزة عند العدو الصهيوني منذ عقود، ومنهم شهداء الحزب الشيوعي اللبناني الياس حرب وميشال صليبا وحسام حجازي وجمال ساطي وفرج الله فوعاني وإياد قصير وحسن ضاهر وحسن موسى ويحيى الخالد، ليريحوا عائلاتهم ويقفلوا جرحاً عميقاً لا يندمل عند من فقد الأحبّة؟ لأنّهم مصطفّون في محور الظلم والقهر والاستبداد والتبعية.
لقد قدّم اللبنانيّون آلاف الشهداء والجرحى من أجل تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني، وكان لحزبنا شرف أن يكون من أوائل الذين بادروا إلى تأسيس الحرس الشعبي وقوات الأنصار ومن ثم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وقدّمنا دمنا قرباناً لخلاص الوطن من الاحتلال، ونجحنا إلى جانب شعبنا وقواه التي قاومت الاحتلال في أن نحرّر الأرض من رجس الاحتلال، أمّا هم فماذا كانوا بفاعلين؟ كان بعضهم في حضن الصهاينة عندما دخلوا إلى بيروت والجبل، ونام بعضهم على زند العدو في الشريط الحدودي، فتبادلوا خدمات الخيانة. قدّم بعضهم عميق التعازي برحيل قادة العملاء المجرمين، وذهب آخرون بزيارات سمّوها رعوية، وتحت رعاية صهيونيّة إلى الأراضي المحتّلة. لماذا لم يحيدوا عن درب العدو الذي كان يذبحنا ويحرقنا بلهيب صواريخه؟ حزبنا استمرّ على درب النضال الوطنيّ، فقدّم مجدداً في عدوان تموز الأخير، الذي حصل في مثل هذه الأيام من العام 2006 خيرةً من المناضلين الشهداء وهم الأبطال عوض جمال الدين وأحمد نجدي وحسن جمال الدين ومحمد نجدي وعلي نجدي وفؤاد الفوعاني وحسن كريم ومكسيم جمال الدين وعبد الناصر فيّاض، ولم نحد ميلليمتراً واحداً عن القضية الوطنية في مواجهة الصهيونية، وعن قضيةِ الدفاع عن لبنان وأرضه وشعبه وسيادته، أمّا هم فكانوا في موقعهم المعروف، ينتظرون جلاء غبار المعركة على أمل الاحتفال بهزيمة شعبهم، لكنّهم خسئوا وانتصرنا.
لو كانوا على الحياد، لساءلوا المملكة السعودية عن مصير رئيس وزرائهم عندما اقتيد إليها وجرى إجباره على تصريحات تراجع عنها لاحقاً. أين السيادة المزعومة في خطابهم الممجوج عن الحياد الكاذب عندما بلعوا ألسنتهم مداراةً للملكة، سياسيون ورجال دين وإعلاميون وكاذبون من كل الصنوف؟
عندما انحشرت المصارف وحاكم مصرف لبنان وناهبو لبنان أمام استحقاق تحمّل أعباء الخسائر المحقّقة نتيجة السياسات النقدية المتراكمة، انبروا في دفاعٍ مستميتٍ عنهم لأنّهم منظومة واحدة تتكامل أهدافها وتتداخل مصالحها، من طبقة رأسمالية ريعية واحتكارية، إلى ميليشيات طفيليّة صارت هي هي السلطة السياسية، إلى سلطة قضائية تصارع لإحقاق الباطل وإزهاق الحقّ لمصلحة المتنفذّين، إلى أجهزةٍ متورّمةْ تعمل ليل نهار في خدمة الطغاة، إلى رجال دين مهمّتهم توزيع المورفين وبيع الأوهام في عظاتٍ وخطاباتٍ وفتاوى وتكاليف شرعيّة، إلى إعلام مأجور مرتبط بمن يدفع أكثر ويتولّى مهمة تلميع من تلطّخت صورته بوحل الفساد والاستغلال والفتنة.
أنتم في صف المعتدين والمحتلين الخارجيين، وأنتم في صف أصحاب الثروات والمليارات الذين سحبوا كل ما تبقى من مال وكرامة من اللبنانيين. أنتم في صفّ النظام الطائفي والمحاصصة والزبائنيّة والفساد، منذ إنشاء الكيان اللبناني حتى اليوم. حيدوا عن درب الخيانة، وعن صف المستغٍلّين الناهبين. حيدوا من طريق الشعب اللبناني التوّاق للتحرّر والتغيير. حيدوا عن مشروع تفتيت لبنان والمنطقة إلى كيانات وكتل مذهبية ومناطقية متصارعة. حيدوا من درب المنتفضين الحالمين بالدول العلمانية الديمقراطية العادلة، والرافضين لكلّ طروحات الفدرلة والمثالثة وغيرها من البدع التي تريد استبدال النظام السيء المنهار بنظم أكثر سوءاً ورجعيةً.
الحزب الشيوعي اللبناني منحازٌ ومنغمسٌ بكل ما أوتي من قوّة لأصحاب الحق، في مواجهة الاحتلال والاستغلال والطغيان، منحازٌ إلى جانب الشعوب التوّاقة للتحرّر والتقدّم والحريّة والعدالة، منحازٌ إلى فلسطين في مواجهة الاحتلال الصهيوني المجرم الذي يرتكب منذ عقود أبشع وأعنف مجرزةٍ تهدف لتصفية شعبٍ كامل، وإحلال شعب آخر جرى تجميعه من حول العالم مكانه، وهو الذي يسرق الأرض يوماً بعد يوم، ويمنع عن ملايين الناس حقّ عودتهم إلى أرضهم فيبقون في دول الجوار ومنها لبنان. نحن منحازون إلى شعوب العالم العربي من المحيط إلى الخليج التوّاقة للتحرر الوطني وللتغيير السياسيّ والاجتماعي ضد المحتلين وقواعدهم العسكرية وضد الناهبين والمستغلين والمستبّدين والتكفيريين. منحازون إلى شعوب العالم كافّة في صراعها ضد الهيمنة والعقوبات والحروب والاستغلال الطبقي والعنصرية والتهميش الاجتماعي. نحن جزء من هذا العالم ومن هذه المنطقة بقضياها وصراعاتها، ونحن في صفّ المظلومين، ولن نحيد، وأنتم في صف مشاريع التوسّع والسيطرة والتقسيم والتفتيت والتطييف والمذهبة والاستغلال والنهب، ونقول لكم حيّدوا عن درب الخيانة، ونعلم أنّكم لن تحيدوا.
*عضو المكتب السياسي، ومسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي اللبناني