الهبوط من الطبقة الوسطى

 

على أقفيتنا، هبطنا، وبسرعة مذهلة، من الطبقة الوسطى إلى الوسطى الدّنيا، فالفقيرة. بسرعة لدرجة أننا لو استدرنا ونظرنا لتلك الأقفية في المرآة، لشاهدنا الكدمات، زرقاء وحمراء، تغطّيها.
يأتي الذهول من هذه السرعة في هبوطنا الاضطراري. سرعة غير مألوفة، تاريخياً، إلّا في حكايا المآسي الإقتصادية الكبرى. فالتاريخ يتغير، صحيح، ولكن ببطء. حركة التاريخ تشبه حركة الديناصور مثلاً أو الفيل، يستدير بتمهّل تفرضه كتلته الضخمة تلك. وإن أسرع لسبب ما؟ كسّر ودمّر، تماماً كما حصل لنا. تلك السرعة تسبّبها عادة في بلادنا، الحروب. لكن يبدو أن تغيرات الاقتصاد، ولو وصفت بالتاريخية، إلّا أنها أسرع بما لا يُقاس. حين يسرع التغيير الاقتصادي، يسمى ذلك انهياراً. وهذا ما يحصل معنا: إننا نهوي.

يكفي أن تَفرَغ جيوبك، وتُصرف من عملك، ويتعذّر عليك لفترة طويلة أن تعثر على عمل، لتستشعر ذلك الهبوط السريع من طبقة إلى طبقة أدنى. تتآكل قدراتك وتنقبض يدك على ما فيها من نقود، متأنيّاً بوجوه الصرف. ليس عبثاً تسمية ذلك بالانكماش الاقتصادي.
وأنا، لا تزال عظام جسدي تؤلمني بعد تلك السقطة. «يا إلهي - أقول في نفسي - هل من الممكن لمسير طويل، تقدّمت فيه بغرز أظافري وأسناني حتى وصلت إلى ذلك الارتفاع، أن ينتهي بطرفة عين؟ كيف تتحالف الجاذبية مع الإقتصاد ضدي؟».
ولكن هل يجدر بي القول أنا؟ أم نحن؟
تستفقد من هم حولك، جيرانك في الطبقة الجديدة. فتجد أنك تعرف الكثيرين منهم. فالطبقة الوسطى ليست بعيدة إلى هذه الدرجة عن الفقيرة. حتى جغرافياً. ساهم النظام اللبناني في بلورة هذا الواقع. وضع تقليدي ليس فيه أسرار: ضواحي المدن، جغرافياً، هي مأوى الطبقات الفقيرة. يضاف إلى ذلك واقع آخر، وهو أن مدن الأطراف أصبحت هي الأخرى ضواحٍ للعاصمة، لا بل ضواحٍ لضواحيها. هي الأخرى هبطت في العقود الثلاث الأخيرة من طبقة الوسطى الدّنيا، الى الفقيرة وبعضها الى المعدمة.
تنظر إلى جيرانك الجدد بابتسامة ارتباك، كمن يشعر بالذنب لأنه لم يرهم قبل الآن. أما هم؟ فينظرون اليك بشيء من الدهشة، وربما ببعض العزاء!
لا أقول شماتة، فكثيرون بينهم كانوا معك «فوق»، لكنك لم تنتبه إلى أماكنهم الفارغة، لأنهم ببساطة سقطوا بصمت. فالسرعة التي تدفعنا بها حياتنا المعاصرة، لا تتيح لنا أحياناً كثيرة حتى تفقّد الجيران. اما قدامى الفقراء؟ أي من هم فعلاً تحت؟ فهم هنا منذ فترة طويلة. لم يكونوا مرئيين أصلاُ. ولا بأس لديهم ببعض التسلية والشماتة، بالفرجة على الفقراء الجدد وارتباكهم بوضعهم الجديد! لكن الفرجة لا تدوم طويلاً. فليس للفقراء وقت فراغ يملأونه بالشماتة أو حتى التعاطف.
ينظر بواب المبنى الذي تسكنه بعين الرضى إلى تغيّر أكياس الزبالة التي اعتاد جمعها من أمام أبواب الشقق، من سوداء بربطة أنيقة غير ممتلئة فعلًا، إلى أكياس «مؤسسة الإقتصاد» التابعة للجيش، والمتخمة حتى لتكاد تنفجر بما فيها. لكنها، على الأقل، لا تزال أفضل من أكياس ربطات الخبز الرقيقة التي تشف عما بداخلها.
بالتسوّق، تعيد اكتشاف وضعك الطبقي. تفضّل السوبرماركت الكبيرة التي تستطيع أن تشتري فيها خضارك بالحبّة، وليس بالكيلو أو نصفه عند خضرجي الحي الذي كنت زبونه لدعمه ضد المولات الكبيرة. يصبح النضال حالياً للبقاء، فردياً.
تتذكر أن الخضار في موسمها أرخص من تلك التي كنت تشتريها بغض النظر عن الموسم. للأمر فائدته الصحية، كنت تعرف، صحيح، لكنك كنت تطنش. فلا وقت لديك للتفكير والمفاضلة. ومعاشك الشهري كان يتيح لك هذا التجاهل. المعاش لا يشتري دوامك في العمل فقط، بل يشتري انتباهك أيضاً. تصبح مستهلكاً ممتازاً: لا وقت لديه للتدقيق.
تكتشف أيضاً أنه في السوق الشعبي القريب، تنزل الأسعار عندما تتخطى الساعة الواحدة ظهراً. تلتقي، الناس الذين لم تكن تراهم بسبب دوام العمل: أولئك الذين يقلّبون بقايا الخضار البائتة والمتغضنة لأنها الأرخص، وفوق ذلك يساومون على سعرها، بخجل، مترقبين أن يهبهم البائع إيّاها.
المشي من البيت الى شارع المسمكة البعيد بعض الشيء، هو الآخر مفيد للصحة، خاصة بعد توقفك عن الذهاب إلى المكتب. لم يعد لديك هدف من الخروج. لا تعرف هدفاً آخر في حياة مضت بالعمل. لم تعد تخرج، وإحساسك بالاكتئاب لأنك لا تنتج شيئاً، يجعل البقاء في المنزل مغرياً.
تجبرك الحاجة إلى التسوّق على الخروج من مغارتك. عن قصد، لا أشتري كل ما أحتاجه. بهذا أجبر نفسي على مغادرة المنزل يومياً. تحس سعادة وأنت تعود ماشياً إلى البيت مع حاجتك اليومية فقط من الأغراض. تحس أنك «بعصت» من يحثك على الاستهلاك المفجوع. هذا وحده يكفي ليمضي نهار آخر من البطالة. جرعة رضى تعينك على ابتلاعه.
هكذا، تبين أن لذلك الهبوط الطبقي الاضطراري إيجابيات كثيرة. منها أنه جعلك تتفحص بحرص شديد عاداتك الاستهلاكية. بداية كان ذلك لتخفّف من مصروفك. ثم أصبح متعة. إيقاع حياة الطبقة الفقيرة جعلني أيضاً أتعرُف بالفعل إلى بعض أناس تلك الطبقة الذين كنت أظن أنني أعرفهم من خلال شغلي بالتحقيقات الميدانية. اكتشفت أن بعض عاداتي، بالرغم من محاولاتي للتنبّه، كانت فعلاً بلا مخ. لكن أن تحاول وأنت غير محتاج، مختلف تماماً عن المحاولة عندما تكون مجبراً.
هكذا، اكتشفت الطبخ، كما اكتشفت كم هو هين تنظيف بيتي دون خادمة، وكيف أمتنع عن شراء أي شيء إلى أن ينتهي ما هو موجود في البراد. اخترعت وصفات طبخ من الموجود في البيت، واستمتعت بها. تعلّمت أن أصلح الأعطال البسيطة في المنزل بنفسي. تماماً كما كان يفعل والدي حين كنّا صغاراً: «برايز» كهرباء، براغي طاولات، طرش، دهان خشب. فجأة أصبحت الحياة أبطأ، وأكثر متعة، لولا ذلك الإحساس بالذنب لعدم إنتاج شيء.
ولأصدقكم القول؟ لم أشعر في حياتي أبداً، بالأمان الطبقي. ربما كانت للحرب الأهلية التي طبعت طفولتي الأثر الأكبر في ذلك. كان هناك تهديد دائم بانقطاع شيء ما: الخبز، النقود، المدرسة، الطريق.
دائماً كنت أتوجّس من أن الفقر سيعود ويطالني. لم يكن خوفاً واعياً، بل سلوكاً مكتسباً. لذا حرصت على تعلّم أن افعل كلَّ شيء بنفسي. أن أتدبّر أموري كما لو كنت مقطوعة في بلاد بعيدة. لم تفهم الوالدة مثلاً حين قلت لها أني أريد تعلّمَ عجن الخبز. كانت صورتها وهي تعجن وتخبز خلال جولات القصف الطويلة خلال الحرب، ماثلة في ذاكرتي كوسيلة إنقاذ من الجوع. ضحكت يومها قائلة: «شو بدك بهالشغلة يا ماما». أما الوالد فلقد رحب كعادته بتعليمي كيفية الزرع وتطعيم وتقليم الشجر، كما لو كان خوفي يشبه خوفاً قديماً لديه.
والمعنى؟ أنه وبرغم كلّ شيء، كانت أموري «ماشية» إلى حدٍّ ما.
كان ذلك قبل ١٧ تشرين الأول.
الطمّاع غلبه الكذّاب...
منذ الانتفاضة، استدار الفيل بسرعة فكسر كلّ الأواني الزجاجية الهشة التي كانت حياتنا في هذا النظام المنته الصلاحية: إقفال للمصارف، صرف عمال، حجز أموال الناس، سرقة المودعين، ارتفاع سعر الدولار ثم اختفاؤه من سوق مرتبط به منذ عقود. أحسست بنفسي انزلق ومعظم الناس بسهولة لا تقاوم إلى طبقة أدنى: ما اسمها؟ لا ليست المعدمة. فنحن لم نصل بعد إلى القاع، لكننا سنصل. هكذا تفترض قوانين الفيزياء.
في أي طبقة نحن الآن؟ لا أعرف. المكان جديد عليّ. وعدتنا المصارف بفوائد عالية على ودائعنا بالدولار. طمعنا. لكنها سرقتنا. لا ليست سرقة مواربة: بل سرقة كوضع اليد في جيب أحدهم وسرقة محفظته. أتذكّر مثلاً شعبياً جزائرياً اعتاد صديق لي ترداده لكني لم أكن أفهمه. يقول المثل «الطماع غلبه الكذاب». بتجربتنا مع المصارف فهمت: نحن الطماعون الذين غلبهم كذبة المصارف.
كان ١٧ تشرين الأول نسيماً منعشاً أسلمت له وجهي المبتسم وعيوني المتألقة بالحماس. ورغم خلو وفاضي، أحسست أنّني حيّة، مفعمة بالنشاط: مظاهرات، كر وفر. تكسير مصارف، حرق دواليب وقطع طرق. خيم وخطابات واعتصامات، نقاشات حامية لمرة في صلب الموضوع: نظامنا. قلت لنفسي يبدو أن نضال سنوات يؤتي أخيراً ثماره. وقلت أيضاً: كلّ دمار يحمل في قلبه بذور بناء جديد.
كان هناك شيء إيجابي: التغيير. كان هناك شيء سيء: لم نكن موحّدين حتى أمام لصوصنا. خفّت الطوائف لحماية أثريائها. خف الأثرياء لحماية بعضهم. أما نحن؟ فقد اجتمعنا قليلاً ثم تفرّقنا جماعات قبل أن تقضي علينا... كورونا.
هذه المرة جاءت الضربة من أمنا الطبيعة. استدارة صاعقة للتاريخ بحجم... الكوكب. سقط نيزك صحي متناه الصغر على عالمنا: فيروس لا مرئي اسمه كورونا، فجمدت الكرة الأرضية، أكاد أقول، حول محورها.
قاومت اقتصادات العالم التي كانت تسحق العمال بسرعتها. قاومت لكي لا تبطئ، فيبطئ الإنتاج والاستهلاك ودوران المال. لكن لم يكن هناك خيار: إما التوقف أو الفناء. فتوقفت.
الحقبة الإقتصادية الجليدية. ديناصورات على شكل شركات ضخمة تختفي. اقتصادات تخرّ صريعة. سياحة؟ صفر. طيران؟ صفر. مصانع، مدارس، ملاهي، مطاعم.. صفر. أماكن كانت تعج بالناس خلت. تجمّدت حركة البشر... لسعادة العصافير والغابات والبحار والهواء. سعدت الطبيعة بفرصة التنفّس. عبّت هواءً خالياً من دخان عوادم السيارات وانبعاثات المعامل الملوّثة والضاربة عرض الحائط بمستقبل البشرية مقابل سبق «النمو» لسيادة العالم، ولو صار مجرّد مكبّ خردة.
عادت المدينة لتصبح غابة.
فجأة كثر جيراني.. في الطبقة الجديدة. استوى الجميع بعد حجز المصارف أموالهم وصرفهم أو توقفهم عن العمل. لكن للمفارقة،.. كانت الطبقة تعجّ بالحياة. تفاجأ كثيرون بسعادة لم يشعروا بها منذ زمن طويل: العودة إلى التواصل مع الأهل والأصدقاء ولو بالواتسآب، اللعب مع الأولاد، القراءة، مشاهدة السينما بفضل الانترنت وفتح المكتبات والمواقع العالمية أبوابها مجاناً. قالوا بكلّ اللغات: إبقوا في المنازل. كانوا قبلاً يجلدوننا للبقاء في المكاتب.
كانت إجازة للكوكب. اسأل نفسي أسئلة جديدة. مثلاً: هل أصبح العمل مضراً بالصحة؟ بلى. أجيب. صار كذلك. أسأل أيضاً: هل الطبقة، كما توحي الكلمة، أرض مستوية نجلس سواسية عليها مع من يملكون الإمكانات نفسها؟ لا. أجيب. الطبقة ليست كذلك. الطبقة نقطة على منحدر.
أتفقّد بعض من كانوا حولي. لا أراهم. أنظر الى تحت، باتجاه القاع، فإذ بهم يبتعدون مواصلين الانزلاق حتى صاروا نقاطاً صغيرة، ثم اختفوا. ابتلعتهم الهاوية.
أشدُّ قبضتي على الصخرة التي أتمسّك بها. سأعاود النهوض. بل سنعاود. أعد نفسي بذلك.