الأفعى لا تُقتَل من ذنبها

نصف الحقيقة هو في معظم الأحيان مجافاة لها وأحياناً كثيرة نقيضها. تواجه المجتمعات العربية مشكلات كبيرة في إنتاج حياتها وفي انعدام أفق الانماء والتقدم. تزايد سكاني كبير، تنامي النقص في فرص العمل، ارتفاع مستوى البطالة، هجرة الكفاءات والمهارات العالية، ضعف البنية الانتاجية في القطاعات الصناعية والزراعية، تفاوت الإنماء بين الأرياف والمدن. كل ذلك، مقروناً بممارسات وسياسات سلطوية، استبدادية، فاسدة، يدفع في اتجاه تفاوت طبقي كبير وتعميم الفقر وانسداد أفق الحياة في مستويات كبيرة.

هذا صحيح. لذلك، إن النضال من أجل التغيير هو نضال مشروع، لا بل هو واجب خاصةً بالنسبة لأي حزب أو تنظيم يساري. ولكن كيف؟ "بإسقاط النظام" يقول البعض أو "بتغيير هذه السلطة السياسية الفاسدة" يقول البعض الآخر. إن ذلك يشكل نصفُ الحقيقة، فهو قد يكون مجافاة لها وتعمية عليها. النصف الآخر منها يقتضي قراءة صحيحة لطبيعة الصراع تأخذ بعين الاعتبار بنية مجتمعاتنا المادية وظروف نشأة "دولنا" التاريخية. إنّ أي مشروع سياسي/نضالي لا ينطلق من قراءة صحيحة لهذا الواقع لا يمتلك أي حظوظ للنجاح وبالتالي فهو قاصر لا أفق جدي له.

من دون الدخول في تحليل طبيعة حراكات ما سُمّي بـ"الربيع العربي" في كونها ثورات أم مؤامرات؛ ألم تُسقِط مآلاتها جملة الأوهام حول "البديل الديمقراطي" الذي يسعى إلى "التغيير" في بنية الأنظمة بمضامينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل توفير حياة أفضل على الصعد كافة؟ غيّرت، هذه "الحراكات"، في بعض البلدان (تونس ومصر والسودان)، الزمر الحاكمة واستبدلتها بأخرى دون أن تمس بجوهر بنيان الأنظمة التابعة وطبيعتها. ودفعت بلداناً أخرى (سوريا واليمن وليبيا) إلى حروب فيها وعليها دمرتها وقتلت وهجرت أهلها. أما في مجال "التغيير الديمقراطي" ونتائجه، لا شيء يبشّر بقادم قريب أو بعيد أفضل للطبقة العاملة والفقراء والمستغَلّين والمعطّلين عن العمل والمحرومين في البلدان التي غيّر "الربيع العربي" حكّامها. ولا شيء يبشّر أيضاً، في هذه البلدان، بفكّ العلاقة التبعية مع الامبريالية ولا بالخروج من حالة الخضوع والارتهان للمشروع الصهيوني وأدواته. استبعدت هذه الحراكات في "ثوراتها" القضية الوطنية المركزية كما لم تلامس أسس النظام التابع الذي تم فرضه على شعوب المنطقة غداة "الاستقلالات" الشكلية لبلدانها. شكل هذا الاستبعاد للقضية الوطنية في بعدها التحرري الأرضية الخصبة المؤاتية لسيطرة الخطاب الديني الإخواني أو السلفي الوهابي المدعوم من أميركا وحلفائها تركيا والكيان الصهيوني ودول الخليج. انتهى بذلك المسار الليبرالي "للربيع السوري"، المدعوم من نخب اليسار "ورموزه"، وشعار "الحرية" الخالي من أي مضمون تحرري إلى انحداره السريع نحو مسار رجعي طائفي ومذهبي خلق الظروف الموضوعية الحاضنة لغزو أجنبي إرهابي متآمر على سوريا ودورها القومي المقاوم. فأثبتت الأحداث أنه واهم أو متآمر من يعتقد أن التغيير يمكن أن يكون بمسار ليبرالي لا يعير اهتماماً إلى المسألة الوطنية وطبيعة الصراع مع الامبريالية وأدواتها.

هل هذا هو التغيير الذي يسعى البعض إلى تعميمه دون مراجعة للتجارب السابقة في مجالات مشاريع حراكات "الربيع" ومآلاتها الكارثية؟ ودون الانتباه إلى دور المؤامرات أو الثورات المضادة الجاهزة (قبل الثورات في معظم الأحيان)؟

تدفع الامبريالية باتجاه اعتماد المقاربة الليبرالية لمشاكل مجتمعاتنا وشعوبنا وذلك من أجل تسهيل وتثبيت هيمنتها. تمول وتدعم، من أجل ذلك،إنشاء المنظمات غير الحكومية (NGO) أو ما يطلق عليها اصطلاحاً "منظمات المجتمع المدني". تخترق هذه المنظمات مجتمعاتنا بكل سلاسة وانسيابية في مقاربتها لمواضيع ومشاكل المجتمع كل على حدة. لكل موضوع منظمته الجاهزة التي تعالجه (لا تعالجه) وكأنه قائم بحد ذاته دون أي ارتباط بالقضايا والمواضيع الأخرى. للحرية منظمتها كما للديمقراطية والفساد والتلوث وإلى ما هنالك. تروج هذه المنظمات إلى اعتماد الرؤية المفككة للقضايا خارج سياقها التاريخي المترابط والمرتبط ببنية مجتمعاتنا وواقعها المادي. تشكل هذه المنظمات إحدى أخطر أدوات الهيمنة الامبريالية التي يتم من خلالها اختراق شعوبنا والسيطرة عليها فكريّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً.

أن تعتمد الامبريالية وأدواتها "غير الحكومية" منطق التفكيك تشويشاً على أي رؤية مترابطة تجمع كل هذه القضايا وتربطها بمصدرها الأساسي، رؤية تؤدي بالتأكيد، لو حصلت، إلى مواجهة حتمية معها؛ أمر غير مستغرب. المستغرب والمستهجن هو أن تعتمد النخب السياسية، أو بعضها، المنطق هذا نفسه في مقاربتها لقضايانا. النخب السياسية ذاتها التي أذعنت لمنطق "الدول" الشكلية المفككة التي صنعها الاستعمار ولا تزال تبني على ذلك مشاريعها السياسية غير آبهة بعدم إمكانية تحقيقها. إنه منطق التفكيك في الجغرافيا والتاريخ وفي القضايا. هكذا يصبح الفساد مثلاً، حسب هذه الرؤية، قضية مركزية قائمة بذاتها لا قبلها ولا بعدها؛ قضية مرتبطة بالسلطة السياسية وممارساتها؛ سلطة سياسية تمتهن السرقة وقلة الحياء تقوم بممارسات لا أخلاقية يجب استبدالها بسلطة أخرى لديها أخلاق. هكذا تنتهي القضية وتستقيم الأمور حسب رأيها. يبقى أن نشكل "الكتلة الشعبية" التي سوف تقوم بهذا الانجاز.

رؤية ساذجة. لا الفساد، أو أي تشوه اجتماعي آخر، هو قضية أخلاقية يمكن فهمها خارج إطار فهمنا لواقعنا المادي وعلاقات إنتاجنا القصرية الخاضعة للهيمنة الامبريالية وآلياتها ولا "الكتلة الشعبية" يمكن تشكيلها بهذه السهولة في ظل بنية اجتماعية عامودية لا بديل للكتل البشرية عنها في إطار بحثها عن الطعام.

مرة أخرى، وقد تكون الأخيرة، نقول أنّ البديل لا يمكن أن يكون إلّا في حركة تحرر وطني جامعة تأخذ بعين الاعتبار انسجام الخيارات الاستراتيجية المقاوِمة مع السياسات الاقتصادية المبنية على التفلت من التبعية والارتهان. حركة تحرر وطني، تبني مع القوى الصاعدة في العالم، وتقوم على بناء الذات الوطنية في مشروع جامع لشعوبنا يحقق التحرر والتنمية في آن واحد. مشروع يؤسّس لبناء الدولة. بعدها، وفقط بعدها، يمكن أن ينتهي الفساد وربما الطائفية ونرتاح يا رفيق.

للتذكير، إن الأفعى تُقتَل فقط من رأسها.